قصة درب شائك بالبراءة قصص قصيرة - أنامل عربية

قصة درب شائك بالبراءة للكاتبة زبيدة شعب،  قصة لي نشرتها لأول مرة على منصة جوك الرقمية وهي قصة تهدف إلى رفع مستوى الوعي والذكاء الاجتماعي بين فئة الشباب.

قصة درب شائك بالبراءة - زبيدة شعب
شاب

قصة درب شائك بالبراءة - الجزء الأول

يقصد العاصمة.. يقصد جامعتها التي سيبدأ منها دربه باتجاه النجاح والتمييز..

كان يرتدي قميصًا أزرق بخطوط مربعة لا يكاد فيه زرًّا إلا وقد أغلقه، كأن الخوف كان ينفذ إلى قلبه الريفي الطيب من تلك الأزرار!

وعليه بنطال أصفر اللون قصير قليلاً، ربما أنه البعد عن الأسدال المرفوض شرعًا لكنه اعتاد ارتداءه على حالته تلك...!

خرج من سيارة البيجو التي رحل بها تحت شمس الظهيرة بشعر لامع من أثر الزيت عليه وقد أحدث فيه فرقًا من جانب الرأس كنوع من الهندام البسيط، يشق شوارع المدينة المزدحمة محتضنًا حقيبته بين ذراعيه وكأنها أغلى ما يملك..

وعندما وصل الشقة التي كان ينبغي أن يعيش فيها مع مجموعة من زملائه، كانت عبارة عن غرفة وحمام ومطبخ وتحتوي عشرة من الطلاب الآتيين من مختلف مدن البلاد للدراسة..

كان ماجد الطالب العاشر فيهم ولم يستطع التسعة تدبير مكان له للراحة، فقد كانت الغرفة ضيقة لا تحوي أكثر من أربعة أسرَّة.. يحظى أهل السبق فيها بالنوم على أحد الأسرَّة بينما يرقد الآخرون على فرش لهم في الأرض.

فاختار مكانًا في زاوية الغرفة ليكن مكانه خلال سنوات الدراسة ومخدعه الذي يوثق به سنوات كفاحه ..

وفي صباح اليوم التالي عاد ومعه دولاب خشبي صغير، قام برص أدواته فيه ووضع صورة أبيه عليه لتكون تلك الزاوية البسيطة هي زاوية البداية..

كان ماجد قد التحق بكلية الطب التي يحلم بها بعد معاناة ثلاث سنوات من التقديم والرفض ليحصل على درجة القبول أخيرًا..

وذات مرة كان يجلس في كافتيريا الكلية ليرى وجهًا بغيضًا يقبل عليه من بعيد.. نعم إنه وجه زميل الثانوية أدهم مقبلاً عليه بابتسامة أشد مداهمة من شره المعتاد!

وبخفة روح مصطنعة، سحب أدهم كرسيًّا لنفسه وجلس إلى جوار ماجد على ذات الطاولة وحدق مليًّا في عينيه ثم أطلق رصاصته الأولى على مسامع ماجد:

"من؟"

"ماجد زميل الثانوية الذكي!"

وعلى غفلة من الذاكرة السوداء أحب ماجد ذلك الوصف الذي صدر منه فأجاب:

"نعم يا أدهم.. هل أنت طالب هنا؟ "

ضحك أدهم ضحكة ساخرة وقال:

"ما الذي سيشفع لمثلي دخول هذه الكلية التي لا تفتح أبوابها إلا للأذكياء! "

وعلى امتعاض خفيّ ونظرات كأنها نظرات أفعى متربصة أضاف:

"أمثالكم "

ابتسم ماجد وفي يده شطيرة الجبن يداول بينها وبين كوب ساخن من الشاي بالحليب وابتلع تلك اللقمة ثم سأل:

"أين تدرس يا أدهم..؟ "

انتفخ أدهم انتفاخه طاووس وأجاب:

أنا لا أضيع وقتي في دراسة الجامعة ولكني أتيت إلى هنا في تكليف من مدربي"

شد حديث أدهم المتعالي فضول ماجد ليعرف المزيد عن دراسة أدهم خارج الجامعة وعن سبب الراحة النفسية التي بدت واضحة عليه!

ثبت تركيزه على تلك الجمل المنمقة التي ينسجها أدهم مستخدمًا حركة يدٍ بهلوانية توحي بالفهم العميق والإلمام الشامل والتمكن التام من كل أموره..

كان أدهم يصف نوعًا من الدراسات النفسية التي تؤخذ على شكل دورات في معاهد المدينة والتي تدعم الذات.. 

وعلى الرغم من أنها ليست كافية لصنع مستقبل زاهر إلا ان أسلوبه كان يوحي بالعكس تمامًا..

وببضعة جُمل مكررة أوحى لماجد كل ما يدور في خلده من أسئلة وأجاب عنها، ودخل معه في متاهة مناقشات في مختلف المواضيع!

ماجد ولد ريفي على سجيته.. سرعان ما تطهر صندوقه الأسود من ذكريات أدهم، وقام بفرمات سريع لكل ماضيه العكر بل وشعر بانجذاب تام لما يقوله بمنتهى الثقة، وفي خضم ذلك الحديث الشائق، رمى أدهم كرتًا صغيرًا قد طبعت عليه بياناته كرقم هاتفه الخلوي وعنوان بريده الإلكتروني وموقعه على الفيس بوك وغيرها..

غرَّت تلك القشرة المزيفة طهر ماجد، الذي جاء بطهره ونقائه من القرية ولم يعتد عليها بعد..

أما أدهم بحديثه الشائق وثيابه ذات الألوان المتناسقة وتصرفاته الحيوية لم يغادر حلبة النقاش إلا وقد حجز لنفسه كرسيًّا عريضًا في إعجاب ماجد ..

وأصبح بكل وضاعته ضخمًا في نظر ماجد بل ومعيارًا للرجل العصري المتحضر!

وانصرف عائدًا وأشعة شمس الظهيرة تدك عينيه لتكشف مدى ركاكته وعدم تحمله، لكن ماجد لم يكن قد وصل إلى ذلك القدر الكافي من دقة الملاحظة..

ظل يقف مراقبًا صديقه الهش بإعجاب وهو يحاول عبور الشارع المزدحم بصعوبة بالغة..

وكانت براءته تلك ونقاء سريرته هي الضريبة الأولى التي كان يجب عليه أن يدفعها ليمتلك نظرة تمحيصية أكثر عمقًا وفهمًا ..

لم يكن ماجد قد جهز نفسه بالمعرفة لمثل هذا النوع من الشخصيات كما جهز نفسه لاختبار القبول في الكلية، فكان لا بد له من مقابلتها ليحصل على تجربة قاسية تصقل فهمه للحياة وتفتق مداركه المغلقة.

قصة درب شائك بالبراءة - أنامل عربية
الدرب

قصة درب شائك بالبراءة - الجزء الثاني

كان صباح غائمًا جزئيًّا.. ماجد نائم في تلك الغرفة المظلمة، فقد اعتادوا على إطفاء المصابيح جميعهم نهارًا؛ لتوفير سعر الكهرباء.

جهاز الخلوي يرن بصوتٍ مزعج ليستيقظ عماد محقونًا بالغضب ليصرخ بصوت عالٍ:

"يا رب ارحمنا من هاتف ماجد الذي لا يتوقف حتى يوم إجازتنا"..

بينما ماجد يغط في نومة عميقة برأسه المدفون تحت وسادته الثقيلة..!

لم يجد عماد حلاً وقد استشاط غضبًا من برود ماجد، فنهض ورماه بالوسادة صارخًا:

"انهض يا صاحب القرية.. انهض أيُّها الحمار الكسول وأغلق هاتفك".

وببطء شديد استيقظ ماجد محاولاً فهم ما يحدث حوله، عماد يصرخ وعدد من الطلاب الساكنين في نفس الغرفة قد نهضوا يتذمرون من كل ذلك الضجيج، والهاتف يرن بصوت عالٍ جدًا، وماجد بهدوء أعصاب يحاول الفهم.

أخذ جهازه الخلوي ورأى عددًا من المكالمات الفائتة من صديقه المقرب أدهم، لينهض بعدها سريعًا كأن صعقة كهربائية قد لامسته مسرعًا إلى الحمام.

وفي صخب وتمذمر يعود بقية الطلاب إلى النوم.

ارتدى قميصه المقلم وترك زرار عنقه مفتوح، وعلى عجلة من أمره قام بطي الأكمام ومشط شعره مشطة سريعة دون أن يحدث ذلك الفرق الجانبي الذي كان يبدو وكأنه طريق ساحلي كما يصفه أدهم ساخرًا كل مرة..

وفي طريقه إلى المكان الذي اعتاد أن يلتقي فيه صديقه قرأ رسالة نصية فحواها:

"زميلي وأخي ماجد.. كانت والدتي مريضة ولم أستطع حضور المحاضرات الأخيرة.. وحالتنا المادية صعبة ولا أستطيع شراء الكتب، فهلَّا أعرتني دفتر محاضراتك لأقوم بتصوير ما فاتني من دروس.! "

كانت رسالة لطيفة جدًا وذات نكهة صباحية تفوق نكهة القهوة الصباحية.. أرسلتها له إحدى زميلاته في الجامعة. قاد ماجد دراجته باتجاه ذلك المقهى حيث صديقه أدهم، وقد انتعش وتطاير شعره مع الريح وهو يقود الدراجة بسرعة قوية.. 

كانت هدى أول فتاة تتحدث معه، وعلى الرغم من أنها تحتاج منه أن يساعدها إلا أنه عدّ بحثها عن رقمه وتفكيرها به انتصارًا عظيمًا بالنسبة له.. 

وبينما كان غارقًا في زهوه، ضربت عجلة الدراجة على رصيف المقهى وسقط ماجد سقوطًا رأسيًا ليغرس رأسه في سلة مهملات المقهى الموجودة بجانبه..

كانت تلك بمثابة رسالة لكنه لم يفهمها.. وبينما كان ينفض عن نفسه ما علق به من مخلفات الطعام، كانت ضحكات أدهم تملأ الشارع، فعلم من لم يعلم وانتبه من لم ينتبه لمنظر ماجد البائس، وعلت الضحكات من كل مكان..

ابتسم ماجد وسار باتجاه أدهم وفي يده منديلاً قماشيًا قد أخرجه من جيبه وكأن شيئًا لم يكن، وأخفى في نفسه ذلك الحزن الذي شابه من سخرية صاحبه..

وعندما وصل إليه قال له بلهجة شبه معاتبة وهو يضحك:

"كان الأحرى بك أن تساعدني عوضًا عن لفت انتباه الجميع"

أسرع أدهم برده القاسي وقد تغيَّرت ملامح وجهه:

"أنا لا أستطيع مقاومة فطرتي.. تعودت أن أضحك كلما شاهدت حمارًا يسقط".

نظر إليه ماجد بخيبة أمل.. فاستجمع أدهم نفاقه سريعًا وغيّر ملامح وجهه ليلبس ابتسامة مستعارة قائلاً :

"حسنا لم أقصد.. كنت أمزح فقط"

واتجه الاثنين إلى المقهى وبادر أدهم في طلب الإفطار وأقسم على ماجد قبول عزومته..

وسرعان ما تغيّر مزاج الطيب ماجد وظهرت على صفحة وجهه علامات الامتنان.

نظر إليه أدهم من رأسه حتى أقدامه ثم علق مستهجنا إياه:

"أول مرة أراك وسيمًا"

ثم أضاف وهو يتصفح قائمة الوجبات أمامه:

"اعتدتُ أن أراك بدهان رأسك وبأزرارك المغلقة كأنك دمية قديمة.. لم أتوقع ان أراك يومًا طبيعيًّا كباقي البشر"

ضحك ماجد وقد احمرَّ وجهه خجلاً وأجاب متعجبًا:

"كباقي البشر..!  "

ثم اتبع حديثه مبررًا :

"اليوم فقط من دون الأيام كلها اعتقدتً أني خرجت رثًا"..

وجَّه إليه أدهم نظرة مستشرفًا بها موضعًا جديدًا، ثم نادى النادل وأخبره باختياره، وعاد لماجد مقبلاً عليه بوجهه وشبك بين أصابعه على الطاولة وبدأ الحديث:

"عزيزي.. أثبت علم النفس الحديث أن اللذين يغلقون أزرة قمصانهم كاملة لا يشعرون بالأمان.. ثم أن مشطة شعرك قروية وأقل حرية.. حاول أن تتجرَّد من مفاهيم قريتك.. وعن تلك العادات التي اكتسبتها من محيطك لتكن أنت.. أنت فقط.. "

وبعد أن تأكد من انجذاب ماجد لحديثه، أرخى يديه وأسند ظهره إلى الخلف ثم أضاف:

"الله لم يخلقك لتكن نسخة من غيرك.. بل خلقك لتؤدي رسالة في هذا المجتمع تخصك وحدك... أنت لا تشبه أحدًا ولا ينبغي أن تشبه أحدًا".

وصل النادل ونهض أدهم بتواضع فيه تكلف وأشاد بنفسه:

"أنا أشفق على عمال المقاهي وأشعر بالخجل وهم يرصون الأكل على طاولتي "

وأخذ يرص الإفطار على الطاولة بنفسه، وقد سلبت أخلاقه تلك لبَّ ماجد الذي كان بغير حصن ولا مناعة.

وقف ماجد لمساعدته قائلاً :

"نعم هم بشر مثلنا يتعبون، لم يحالفهم الحظ في التعليم، ولم يكن في حياتهم من يدعمهم مثلنا"..

وهنا تأكد أدهم أن صنارته قد أمسكت هدفها..

جلس أمام صديقه الساذج وبدأ الاثنان تناول إفطارهما، وأدهم يدقق النظر في وجه ماجد، وقد لاح الهدف قريبًا منه.

وفي مكان آخر، زملاء ماجد في السكن يتذمرون عدم طيِّه لفراشه ونسيانه للإنارة مشعلة في الحمام!

قصة درب شائك بالبراءة - ماجد
ماجد 


درب شائك بالبراءة - الجزء الثالث

كان ماجد في ذلك اليوم، أكثر نشاطًا من كل يوم ويرتدي ثيابًا جديدة لا تزال آثار طي المتجر عليها، وبقميصه الجديد الأخضر وبنطاله البني، كان يمشي في زهو كأنه امتلك العالم. رآها من بعيد تقف بجانب الشجرة تكاد تكون متخفية، فتسارعت خطواته ونبضات قلبه معًا. نسي نصائح زميله أدهم

 "كن ثقيلًا ولا تبدي الاهتمام الزائد". 

وعندما اقترب منها حاول الهدوء واحمر وجهه وناولها الملازم من بعيد، وكذلك فعلت هي

تراجع إلى الخلف وتلعثم في حديثه وهو يحاول أن يتذكر تلك الجملة التي لقنه إياها صديقه أدهم.. 

"اعطيني ملازمك لأصححها لك إن شِئت! " 

قال تلك الجملة متقطعة واستقبلتها بتردد أكثر ثم أجابت: 

"نعم كنت أود أن أطلب منك ذلك وخفت أن ترفض".

انتفخ الفتى النبيل وابتسم وكأنها قد قالت فيه قصيدة غزل قائلًا: 

"حسنًا.. لا عليك سأصححها لك".

ناولته ملازم تكاليفها بسرعة ثم انصرفت سريعا وماجد يراقب خطواتها وكأنه يرى انعكاسه في المرآة!

سَعِد كثيرًا بحصوله على ملازمها وقد عزم أن يأخذها إلى صديقه أدهم كي يقوم بتحليل لشخصيتها كما وعده 

كانت الفتاة تدرك أن ماجد هو أذكى طالب في دفعتها وقد لاحظت فيه الأدب والعفة فتشجعت للحديث معه رغم الفوبيا التي تعاني منها تجاه الذكور 

أما ماجد فقد دخل مارثون الأحداث وبات متأكدًا أن الفتاة معجبة به وتحبه. لم تكن هدى تعلم بعد أن العفة هي عفة القلوب وليست عفة المظهر، لم تكن تعلم أن أمثال ماجد يسقطون بتلقائية وبدون أي تردد

وعندما انتهى دوام الجامعة، انطلق ماجد بمكتسباته العظيمة إلى سكنه. وصل ليجد عماد بفانيلته الداخلية يقف غضبان في بهو السكن 

"أهلا بالقط الأسود".

قال ماجد في سخرية من منظر عماد، لكنه لم يكمل جملته تلك إلا وقد صال وجال عماد في السكن وهو يصرخ بصوت عالٍ جدًا: 

"هذا الأدمي الغبي يكفي لجلط قبيلة بأكملها". 

وقف ماجد محتارًا لا يعلم ما الذي يغضب عماد، لكنه اعتاد عليه إما ضاحكًا بشكل هستيري أو غاضبًا بشكل مبالغ فيه، فتجاهله ودخل إلى المطبخ ليبحث عن شيء يأكله. 

وقف عماد عند باب المطبخ وحدَّق طويلًا في ذلك المخلوق البارد ثم قال:

ألم تعلمك أمك كيف تغلق الحنفية بعد استخدامها جيدًا؟ " 

توقف ماجد قليلًا وقد وصلته الفكرة أخيرًا. ترك ملعقته في الصحن ثم أجاب مبتسمًا: 

"هل نسيتها مفتوحة؟"

انصرف عماد وكأنه يأس من الحديث معه وهو يدعو الله:

"يا رب ارحمنا من هذا البليد" 

ثم التفت إليه موجهًا إليه إصبعه السبابة قائلًا: 

"والله إنك ستدفع نصف الفاتورة وحدك".

كأن الريق نشف فجأة في فم ماجد ولم يستطع حتى بلع لقمته تلك.

شعر بالحزن فجأة وترك طعامه ونهض يعُدُّ أدواته وتلك الملازم ثم خرج. 

شعر عماد أنه قد جرح ماجد بحديثه لكنه برر لنفسه الأمر متمتمًا بسخط: 

"إنه لا يشعر بالمسؤولية أبدًا، يترك المصباح مشعلًا، يترك الحنفية مفتوحة، يترك باب السكن مفتوحًا، كأنه طفل مدلل وأنا لست أمه". 

توقف أحمد عن ترتيب سريره ثم التفت إلى عماد قائلًا: 

"أرجوك كرر له الجرعة كل يوم عله يتعافى من تلك البلادة". 

ضحك عماد ضحكة صاخبة وأخذ يقلِّده ويضحك بقوة وقد أخفى في نفسه ندمًا على ما فعل، وكان الجميع يضحكون ضحكًا عجيبًا فقد كانت ضحكة عماد معدية يضحك معه كل من رآه يضحك، وكان مصدرًا للفكاهة في السكن، ومصدرًا للضجيج والفوضى في الوقت نفسه 

وفي الشارع كان ماجد قد نسي ما كان من عماد، فقلبه مشغول بما هو أهم من ذلك. قام بتعبئة جهازه الخلوي بالرصيد لأول مرة منذ شهرين وأجرى اتصالات هاتفيًا بصديقه أدهم ليخبره بمجيئه ويطلب منه انتظاره 

أجاب أدهم على هاتفه:

"ألو.. ماجد.. أين أكتب لك هذه المبادرة إنه لحدث تاريخي حقًا" 

تبسم ماجد وقال ضاحكًا: 

"عن أي شيء تتحدث.. أنا في الطريق إليك ايه النمس " 

فأجاب أدهم بسخرية مفرطة : 

"ايه البخيل الجلدة، انها أول مرة تبادر وتتصل، سأقوم بتأريخ هذا اليوم" 

سكت ماجد سكوتًا طويلًا، ظن أدهم أن الخط قد قطع وأخذ يردد: 

"ألو، ألو، ألو" 

لكن ماجد لم يجب على الرغم من سماعه لصوت أدهم، فأغلق أدهم هاتفه متهكمًا: 

"يبدو أنه قام بتعبئة رصيده لخمس عشرة ثانية". 

ثم أخذ يكتب رسالة نصية لماجد وهو يضحك فحواها: 

"تعال أيها البخيل أنا أنتظرك " 

الحقيقة أن أدهم كان يمزح لا أكثر، ولكن ماجد شعر بحساسية مفرطة تجاه هذه الكلمة. لم يدرك أدهم ماذا فعلته جملته تلك في مشاعر ماجد

كان ماجد يحترق حزنًا من داخله وعلى الرغم من ذلك ركب وسيلة المواصلات واتجه إلى أدهم.. حاول ماجد بلع المزحة، حاول استصاغتها لكنها اخترقت حواجز زمنية ووصلت به إلى الماضي، وكأن دم ماجد قد تحول إلى بنزين وكانت تلك الكلمة هي عود الثقاب المشتعل الذي أغرق ماجد في جحيم حزنه

ذهبت به إلى طفولته في تلك المدرسة البائسة في القرية، ترددت في أذنيه ضحكات زملائه وهم يتهمونه بالبخل والتقتير، كان ماجد يتيمًا فقيرًا تعمل جدته على الإنفاق عليه في تربية المواشي والدجاج وبيع اللبن والبيض

لم يكن ماجد ليبيّن لرفاقه فقره وقلة حيلته، كان عزيز النفس ذو أنفة ذكي في دراسته، كان يبرر ذلك بالبخل ويتظاهر به حتى عادت تلك الكلمة مظلمة عمره وجحيمه النفسي

لم يكن أدهم يعلم أن ماجد لم ترفضه الكلية طوال ثلاثة أعوام، إنما كان يعمل في تعليم الأطفال القراءة والكتابة والسور القصيرة من القرآن الكريم ليجمع مبلغًا يرتحل به إلى المدينة وينفقه على دراسته

لم يكن أدهم يعلم أن ماجد يشعر بالأسى تجاه جدته التي بدأت تفقد بصرها وصار يسابق الزمن ليصبح طبيبًا ويتحمل مسؤولية نفقاتها

كان ماجد يكتظ بالوجع فدفعته عزة نفسه لتقمص دور البخيل مداراة لتلك الأوجاع.. لم يعرف أدهم رغم أنه يدعي فهمه وإلمامه بشخصية ماجد إلا ما أراد ماجد أن يبديه له من صفات

وقف ماجد أمام مسكن أدهم، يحمل ملازم هدى مطوية وقد فقد شغفه تمامًا لمعرفة أي شيء. تمنى لو استطاع أن يرد كل قرش صرفه أدهم في مجاملته. شعر بألم في بطنه وكأن بطنه تريد أن تتقيأ كل ما وصلها من مال أدهم. تردد قليلًا ثم طرق الباب. أسرع أدهم مستقبلًا إياه.

"لماذا تغير ملابسك؟ " 

فأجاب أدهم: 

"لنخرج معًا، نأخذ أي شيء ونتدارس أمر خط فتاتك على رواقة".. 

رفض ماجد بحزم عزومة أدهم. صدم أدهم برفض ماجد وبعصبيته تلك على غير عادته وخانته خبرته وفراسته من فهم السبب. حاول أكثر من مرة لكن ماجد قالها حاسمًا للأمر: 

"إما أن نجلس هنا أو سأعود إلى المنزل " 

وأخيرًا وافق أدهم وتوقف عن كثرة الأسئلة، اتجه إلى مطبخه الصغير لإعداد الشاي فرن جهازه الخلوي ليعود إليه 

رد أدهم: ألو 

فإذا به كما بدى لماجد شخصًا مهمًّا يحدثه عن شيء مهم؛ لأن أدهم اتجه فورًا إلى الشرفة ليكمل تلك المحادثة بعيدًا عن مسامعه. 

شعر ماجد بالملل، فشدت انتباهه ملازم وأوراق أدهم على الطاولة. شدَّه الفضول فاتجه يتصفحها وهنا كانت الصدمة 

كانت تلك الأوراق عبارة عن تطبيق عملي لدراسات نفسية والشخصية المتناولة في ذلك التطبيق هي؛ ماجد

كان ماجد يقرأ ويشعر أن الأرض تطوى من تحت قدميه مع كل ورقة يطويها. تناولت الدراسة ملابسه، سذاجته، مظهره، غباءه الاجتماعي، بخله، وووو

لم يعُد يحتمل ما يقرأ. رمى بالأوراق في الأرض وقد عادت إلى ذاكرته أول لحظة قابل فيها أدهم في الكلية، تذكر الجملة التي قالها "أتيت بتكليف من مدربي".. 

أدرك ماجد في تلك اللحظة معنى تكليف، أدرك أنه لم يكن ذكيًّا في نظر أدهم كما وصفه إنما كان فأر تجارب. فقط فأر تجارب لا أقل ولا أكثر. أخذ ملازم هدى وانطلق عائدًا إلى بيته. وتلك الكلمات السامة التي قرأها في تكليف أدهم قد زادت في معاناته واحتراقه 

الأمر لم يتوقف عند البخل فقط، فقد شعر ماجد أنه بات كتلة من العيوب المتنقلة. ساق دراجته سريعًا. ساق كأنه في سباق مع أحزانه وصدماته. ساق وهو لا يعلم إلى أين سيذهب وبالكاد كان ينتبه إلى الطريق

قصة درب شائك بالبراءة - للكاتبة زبيدة شعب
درب طويل 


درب شائك بالبراءة - الجزء الرابع 

كانت تلك المكالمة طويلة نوعًا ما، حاول أدهم اختصارها بمحاولات غير جادة، فهو يعلم أن ماجد سينتظر على أية حال.

كان ماجد من الشخصيات المضمونة بالنسبة لأدهم، ولم يكن أدهم بتلك الأخلاق التي تجعله يهتم بمشاعر أصدقائه. 

أغلق جاهزة الخلوي وأشعل سيجارة، ثم عاد ببطء إلى الغرفة ليخبر ماجد أنه شُغل باتصال مهم جدًا، ثم يكمل يومه معه، فوجئ أن ماجد ليس بالغرفة.

ثنا ذراعيه بتضجر ممسكًا خاصرتيه والتفت يمينًا وشمالًا:

"أين ذهب هذا الغبي! "

ثم وقعت عينه على أوراق التكاليف في الأرض، رمى بالسيجارة من نافذة الغرفة ودنا منها وتصفحها ليعلم أخيرًا أن ماجد قد قرأ كل ذلك! 

ضرب براحة يده على جبينه بقوة، فهذا يعني أن ماجد قد عرف، ولن يستطيع تناول شخصيته بعد ذلك كموضوع للتطبيق والتجربة! 

وتساءل في نفسه: "هل قرأ كل شيء!"

وهو يعلم أن خروج ماجد دون أي إشعار مسبق على غير عادته يعني أنه يوجد ما أحزنه وبقوة، لكنه الأمل المنقطع. 

وهناك في سكن الطلاب، كان ماجد يجلس حانقًا غضبانًا لا يتكلم مع أحد كعادته، لا يجلس معهم ليسألهم عشرات الأسئلة كما تعودوا عليه!

لا يتمسك بجهاز التحكم كما عرفوه ويصر على سماع الأخبار. 

كان ساكنًا هادئًا يلعب في زاويته بجهازه الخلوي إحدى الألعاب الإلكترونية الموجودة على محرك البحث جوجل. 

نظر إليه عماد نظرة جانبية وهو يتظاهر بالانشغال وظن في نفسه أن ماجد غاضب منه فحز في نفسه ذلك. 

ترك ما في يده واقترب من ماجد فلم يلتفت الشاب إليه كعادته ولم يعطه وجهًا. 

نظر إليه عماد وهو يكتم ضحكة قوية ثم قال:

"هل أنت غاضب مني إيه الراعي؟"

توقف ماجد على الفور ونظر باستغراب إلى عماد، ضحك عماد عاليًا وجلس إلى جوار ماجد واضعًا يده على ركبته ثم أخذ يبرر:

"نحن نحبك يا ماجد، لكنك لا تعلم كم من المجهود والعناء نبذله لكي نحصل على أموال بسيطة تساعدنا على إكمال دراستنا، لتأتي أنت بكل بساطة، تهدر الماء والكهرباء وتحملنا ما لا نطيق".

ثم سكت قليلًا وضحك قائلًا: "حتى إنك تصب الزيت وتملأ الطعام به حين يأتي دورك في الطبخ، ونصف الملح في الطبق والباقي تكبه في الأرض".

كان يتحدث ويغالب الضحك في الوقت ذاته حتى أضحك جميع من في الغرفة ثم أضاف: "من أي قصر جئت ايه الراعي لتفقرنا وتنتف ريشنا هكذا؟ "

ترك ماجد جهازه الخلوي مبتسمًا وكأنه نسي موضوع أدهم قليلًا ثم سأل:

"كيف عرفت أني كنت راعيًا؟ "

ضحك عماد ضحكة ساخرة وقال :

"لو كنت مزارعًا لهذب الزرع قلبك وشد المحراث ساعدك، أما ترى أنك رقيق المشاعر مرهف الأحاسيس تبكي من كل كلمة !"

ضحك ماجد وقال :

"دعك من هذا أيها القط الأسود أنا لست غضبان بسببك، لكني كنت راعيًا فعلًا :

هنا نهض عماد نهضة احتفائية بنفسه فاردًا ذراعيه إلى الأعلى :

"أرأيتم أنا أجيد تحليل الشخصيات! "

ابتسم ماجد ابتسامة مكسورة وقد ذكره حديث عماد بما أحزنه بالفعل.

أدرك حينها أن تلك المهارات التي يجيدها أدهم ليست بذلك العلم الدامغ إنما هي استدلالات بسيطة يجيدها أي شخص لديه قوة ملاحظة.

نهض وارتدى معطفه متجهًا إلى الخارج فتبعه عماد يناديه:

"إلى أين أيها الراعي، والله لا أتركك حتى تقول لي ما الذي يحزنك أيها الرقيق المرهف"

أدرك ماجد أن عماد لن يتركه، فعماد شخصية تخلط الجد بالهزل، شخصية تضحك من كل شيء وتغضب من كل شيء، ولا يجدي معه شيئًا.

خرج الاثنان وطال بهما الطريق وهما يتجاذبان أطراف الحديث في مختلف المواضيع.

وقف الاثنان وقد اعتصرهما الجوع، ورائحة السنابل المشوية تملأ أنفاسهما، فأخرج ماجد ريالات معدودة من جيبه وكذلك فعل أدهم.

ضحك الاثنان على تلك العملة التي تبدو كأنها قد خرجت توًا من فم بقرة جائعة، واتجها إلى بائع السنابل الذي يسمى في صنعاء "رومي".

وأعطياه تلك النقود وأخذ كل منهما روميًا مشويًا على الفحم له رائحة تعدل المزاج كرائحة البن.

تجاهل الاثنان كل تلك الروائح التي تخرج من مطاعم صنعاء مستفزة جيوبهم الخالية، وشعرا برفاهية تامة مع ذلك الرومي في أيديهم، وبدآ بقضم طعامهما وأكملا حديثهما وهما يسيران باتجاه الجسر.

شعر ماجد بارتياح عجيب تجاه عماد الذي كان رجلًا على سجيته، لا يتخالج الزيف في تفاصيل حديثه، ولا يلبس ثوبًا غير ثوبه.

سرد له دون أي مانع نفسي ما حدث له مع أدهم.

شعر ببساطة عماد وبعدم تكلفه، شعر بواقعيته وابتعاده عن ادعاء المثالية والكمال، فلم يجد في نفسه ذلك الحرج وهو يفتش بصعوبة في جيبه ليبحث عن عملة ممزقة، ولا بفتح قلبه وإخبار عماد بكل ما يحز في نفسه.

كان عماد مستمعا سيئًا فلم يكد ماجد يروي محطة من حياته إلا ويقاطعه عماد بنكتة أو تهكم ضاحكًا بعلو صوته، لكن ماجد على أي حال كان يستمتع بذلك الجو المزعج الذي خلقه عماد، أو على الأصح أنه كان يشعر بتفاهة أوجاعه وصغر حجمها.

روى لعماد كل ما واجهه من صعاب في حياته وختم حديثه قائلًا:

"دربي شائك بالعثرات والمصاعب، لم أحيا كما عاش الآخرون من أولاد جيلي حياة سهلة" 

نظر إلى عماد ليجده يقوم بقليب الرومي في يده ليتأكد أنه بات خاليًا من أي بذرة تؤكل، ثم رماه رمية طويلة ليصيب وبدقة هدفه في سلة المهملات البعيدة، ثم عاد وأمسك على كتف ماجد. 

وبجدية نادرًا ما تحدث مع عماد، التفت إلى صاحبه وقال له مربتًا على كتفه:

"دربك شائك بالبراءة يا رجل".

عبس ماجد قليلًا وعقد بين حاجبيه محاولًا استيعاب ما يقوله عماد، فأكمل عماد حديثه وقد بدا الحزن واضحًا على ملامحه:

"ألم تسأل نفسك يوما ما.. ما الذي جمعنا في تلك الغرفة!"

تلعثم ماجد قليلًا ثم أجاب محرجًا:

"الحقيقة، لم أفكر في هذا الأمر مسبقًا"

قال عماد مبتسمًا بعد أن جر تنهيدة عميقة :

"أحمد من أسرة فقيرة جدًا، أبوه يتزوج كثيرًا ومن كل زوجة ينجب طفلًا أو اثنين، ثم يطلق ثم يتزوج وهكذا.. ويرمي بأطفاله وينساهم لهثًا خلف ملذاته الشخصية"..

فتح ماجد عينيه باستغراب قائلًا :

"لا يظهر عليه أبدًا ذلك! "

فأجابه عماد مبتسمًا:

"وهل ينبغي لنا أن نجعل أوجاعنا عنوانًا لنا؟"

ثم أضاف وهو يغوص في عمق التفاصيل:

"كان أحمد يسكن في بيت جده المجاور لنا، كان إخوته يأتون لزيارته أحيانًا، فتجد كل اثنين منهم شكلا مختلفًا "

ضحك ماجد ضحكة عريضة وقد شده أن يعلم المزيد وعلق:

"مخطط ومنقط ومقلم!"

ضحك عماد وأجاب:

"نعم، هكذا كل اثنين يبدو عليهم الشبه على ما يبدو من أخوالهم إلا من شابه أباه فما ظلم".

حاول ماجد رمي الرومي في يده كما فعل عماد، لكنه فشل في التصويب فذهب ليدخله سلة المهملات وهو يقول:

"فشلت بالتصويب"..

ثم عاد وسأل عماد عن السبب الذي جمعه في السكن مع أحمد فأجابه عماد:

"كان لي أب متطرف، يؤمن أن العصا تربي الأجيال لكن الموضوع تطور بعد ذلك وصار يربي الأجيال بكل وسائل التعذيب"

وانفجر ضاحكًا بعلو صوته وهو يضيف:

"أرأيت يومًا أبًا يجلد ابنه بحديد البناء الصلب!"

حاول ماجد إخفاء ضحكته خوفًا أن يجرح عماد فضربه عماد بيده ضربة جانبية ضاحكًا:

"اضحك يا هذا فصاحبك كان يجلد جلد العبيد، حتى جاء اليوم الذي قررنا فيه الهروب إلى صنعاء ، أخذ أحمد من أمه سلسال من ذهبها ووعدها أنه لن ينسى وصاياها، لن ينسى ذلك العناء الذي قاسته حتى تربيه منفردة وخرجت أنا معه بجيب فارغ"

"كنت أرى أبي في وجه كل رجل في الطرقات، أسمع صوته كلما تكلم أحدهم في الباصات، كنت مذعورًا منه لدرجة أنني كنت أحلم به كل ليلة".

ماجد يراقب باهتمام بالغ:

"ثم ماذا بعد؟" 

" قمت بالاتصال بإحدى أخواتي لجس النبض عن ردة فعل أبي، فتفاجأت بأنها تقول إنه غير مكترث بما فعلت"

كان عماد يتحدث بحماس وكأنه يروي أسعد قصة حدثت له، وماجد يراقب بذهول تلك القصة، فلم يعتد أن يضربه أحد في حياته إلا وصار عدوًا لجدته. 

أكمل عماد حديثه:

"وصلنا إلى صنعاء وقمنا ببيع ذهب أم أحمد واستأجرنا هذه الغرفة لتشهد على ذلك الدرب الذي شققناه سويا، وبدأنا من اليوم الثاني مباشرة بالبحث عن عمل"

ماجد يكمل القصة بفضول:

"وجدتم العمل، ثم كيف تعرَّفتم على باقي أفراد الغرفة!"

أكمل الاثنان سيرهما هبوطًا من أعلى الجسر، وقد بدأ عماد برواية قصص الشباب الواحد تلو الآخر ليهدأ من روع ماجد ويخفف عنه حزنه.

شعر ماجد وهو ينصت إلى حديث صاحبه أنه قد عاش حياة دلال ورفاهية لم يعرفها رفاقه.

قصة درب شائك بالبراءة - قصص عربية
البراءة 


درب شائك بالبراءة - الجزء الأخير

ظلَّ الصاحبان ينحدران مع ذلك الجسر، وصنعاء تعلو شيئًا فشيئًا وتتَّضح ملامحها كأنها عروس قد احتجبت بحليها، ورائحة الريحان تفوح من تلك المقبرة القريبة منهما.

كأن المقبرة تواسيهما وتبعث في موت آمالهما حياة أخرى بسحر يصعب شرحه وتفسيره.

ولما وصل الصاحبان أسفل الجسر والشمس قد علت على عرشها في كبد السماء، شعر ماجد بالعطش.

وقف مليًّا يسترد أنفاسه، ثم طلب من عماد مرافقته إلى أحد المقاهي القريبة من الجسر على الشارع الرئيس. 

تكدر مزاج عماد قليلًا؛ فالمسافة إلى المقهى لا بأس بها، لكنه وافق على أي حال.

"دعنا نأخذ قنينة ماء ثم نركب المواصلات ونعود، فأنا أشعرُ بإنهاك شديد"

قال تلك الجملة وهو يتفحص بعينيه الشاخصتين باصات الطريق الذاهب منهم والغادي، وقد وضع يديه على خاصرتيه بلغة جسد تقول: "ليس عندي استعداد للمزيد من السير".

انطلق ماجد يمسك بيده على جيبه خوفًا من ضياع القلم في أثناء الركض، وأنظار عماد تتبعه دون أي حراك منه، ثم توقف برهة والتفت ضاحكًا: "والله لن أمشي خطوة إلا معك! "

ابتسم عماد واستسلم لعناد ماجد وركض خلفه ولما وصل إليه، اتسعت عيناه فجأة وهو يدقق في بوابة المقهى

كان ماجد يمد يده إلى عماد لصفقها بكفه ممازحًا إياه، لكن عماد كان قد ثبت عينيه عند باب المقهى.

التفت ماجد وإذا به يرى هدى !

هدى الفتاة البريئة تقف إلى جوارها أدهم يتحدثان في شيء ما ثم يلجان المقهى.

تلعثم ماجد وتعرَّق جبينه بقوة، واختنق بعبرته وهو يحاول جمع كل تفاصيل الحياة واختزالها في ذلك المشهد الغريب!

ابتلع ريقه والتفت إلى عماد وكانت تلك المحاولة الأولى له في خلق موقف مزيف. ابتسم محاولًا إخفاء صدمته ليعلم السبب الحقيقي وراء صدمة صاحبه عماد

وكأن ماجد بدأ أخيرًا بتقبُّل الحقيقة بمرارتها، بل يرحب بها ويفتح لها نوافذ قلبه ويمهد لها دربه الشائك.

وبمرارة يحاول إخفاء تلك الجمل التي تتزاحم في حنجرته كلا منها تودُّ التحرُّر سائلًا : "من هذه الفتاة والذي معها أتعرفهما؟ "

ظلَّ عماد يحدق في باب المقهى، ثم تمتم على امتعاض وعينيه تطلقان شرارًا من نار دفينة في ماضيه:

"ما الذي أتى بهذه الغبية إلى هنا!"

تنفس ماجد نفسًا عميقًا ثم أعاد على مسامع صاحبه:

"هل تعرفهما؟"

التفت عماد وأمسك بكتف ماجد كأنه يدفعه للسير بعيدًا من تلك المنطقة وهو يقول: "هذه حرباء تدعى رباب وذلك هو خطيبها فؤاد".

اتسعت عينا ماجد عند سماع الأسماء وكأن حقيقة قد لاحت له، فربط على قلبه وأخفى كل ما بداخله ليعلم ما يختلج فؤاد صاحبه من زيف قد امتزج بذاكرته: "ما قصة الحرباء يا عماد!"

أشار عماد لأحد الباصات لإيقافه، وركب الاثنان، ثم جلسا في المقعد الأخير، وهو المقعد الذي اعتاد الشباب أو الشابات حجزه حين تكون الطريق طويلة ولديهم قصص يرونها لبعضهم.

"راس الديوان" كما يصفونه وذلك لأن لا أحد يطلب منهم التحرُّك من مكانهم ليتمكن من النزول

جلس الاثنان رأس الديوان، وبدأ عماد يجر كلامه جرًا وكأنه لا يريد الحديث في هذا الموضوع بالذات:

"تفاجأتُ يومًا ما برسالةٍ من زميلة تدرسُ معنا في كلية الهندسة، تقول فيها إنها كثيرة الغياب؛ بسبب مرض أمها وتحتاج إلى ملازمي لتصحيح أخطائها منها، ونقل ما أقوم بتلخيصه. ولما التقينا تحت شجرة في وسط الجامعة كانت تبدو بريئة وتعاني من فوبيا من جنس الرجال. أشفقتُ عليها وناولتها الملازم من بعيد، فشكرتني بهزة رأس خجولة، ثم انصرفت وكنتُ مستعجلًا فتركتها لخجلها وأسرعت".

كان ماجد ينصت بأذن تحليلية لكل ما يقول عماد، ويتذكر ذلك المشهد الذي تكرر معه مع ذات الفتاة، لكن الفرق أنها ابتعدت بعد أن سرقت قلبه، فهل يا تراها سرقت قلب صاحبه أيضًا!

أكمل عماد حديثه بعد أن شرب كمية من الماء لا بأس بها مسترسلًا في حديثه:

"وفي اليوم التالي أرسلت إليَّ رسالة شكر، فرددت إليها: بعفوًا. وظلت هكذا كلما احتاجت إلى شيء استعانت بي، حتى أتى اليوم الذي اتصلت بي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وهي تبكي، وتنتحب، بدموع حقيقية وصوت كسير تشكو إليَّ مرض أمها وحاجتها الماسة لإجراء عملية عاجلة".

تحمس ماجد للقصة واتجه بكل جوارحه نحو صاحبه وقال:

"ثم ماذا؟ لا تقل لي إنك قمت بدفع المبلغ!"

أجاب عماد ساخرًا من حديث ماجد:

"ومن أين سيأتي صاحبك الحافي بألف دولار في يوم وليلة برأيك! "

ثم استأنف حكايته:

"قمتُ بتطمينها ثم أنهيت المكالمة معها واتصلت بمندوب دفعتنا وطلبت منه أن يقوم بحملة تبرعات إنسانية لزميلتنا الغائبة وذلك لمساعدتها في دفع تكاليف عملية أمها. وما هي إلا لحظات حتى اتصل بي مندوب دفعتنا وأخبرني بأن لا وجود لهذه الطالبة ضمن دفعتنا، والغريب أنه بحث عن اسمها في كشوفات كلية الهندسة بكل أقسامها ولم يجده!"

ماجد يقاطع عماد بعجلة:

"ثم ماذا!"

يُكمل عماد حديثه بصخب وتضجر وكأنه لا يريد تذكر ما حدث:

"تجاهلتها طبعًا لمدة أسبوع. وفي يوم من الأيام أقبل ذلك الطبل فؤاد إلى كليتنا وتهجم على الحارس وأراد طعني بجنبيته بحجة أني قمتُ بمعاكسة خطيبته، واستشهد بالاتصالات بيني وبينها، التي كانت آخرها بعد منتصف الليل!"

كان ماجد ينظر إلى عماد وكأن جبلين من الفولاذ قد أطبقا على جنين الحب في قلبه وأجهضاه، ثم سأل صاحبه وقد وضع يده على كتفه ليربت عليه:

"وكيف تصرفت؟"

فتح عماد قنينة الماء التي لم يشرب منها ماجد قطرة واحدة، وسكبها في جوفه سكبة واحدة، ورماها رمية صاخبة من نافذة الباص، ثم شرح لصاحبه مشهدًا لا يمحى من الذاكرة:

"خرجت إليه بدون أي سلاح لأدافع به عن نفسي، وواجهت الموقف، وحاولت شرحه لزملائي ودكاترتي، لكن الجميع كان مقتنعًا بما يقول فؤاد، وكانت كل محاولاتهم تصب في إيجاد طريقة يخمدون بها حممه المتناثرة!  وقاموا بجمعنا في مكتب العميد وطلبت مواجهتها. اتصل بها ذلك السخيف وما هي إلا دقائق حتى أقبلت علينا تمشي كأضحية العيد، وكأنها كانت مختبئة أسفل المبنى. سألها العميد عما يقول خطيبها المجنون فانهارت باكية، وقالت إني حاولت التحرش بها وتهديدها أكثر من مرة".

انتفخ وجه عماد وازرق فمه وانتفخت العروق على جبينه وهو يتحدث، ثم علا صوته حتى انتبه كل ركاب الباص لتلك الحكاية، هل هذا منظر متحرش يا ماجد!"

لاحظ ماجد أن جميع من على الباص يتابعون باهتمام بالغ تلك الحكاية، بل إن بعضهم قد التفت بجذعه كاملًا نحوهم يصغي بشغف، فنادى صاحب الباص طالبًا منه التوقف

سحب صاحبه ونزلا معًا وهو يطلب منه إخفاض صوته، ثم سحبه إلى إحدى الحدائق الركنية، وجلسا على أحد الكراسي.

تريث ماجد قليلًا، ثم سأل عماد أن يكمل

أخرج عماد سيجارة من جيبه وأشعلها وسحبها في شفطه واحدة كأن الثأر بينه وبينها لا بينه وبين رباب، ثم أكمل قصته:

"بعد كل تلك الفوضى التي حدثت، لم يكن معي يصدق ما أقول إلا مندوب الدفعة، وأما البقية فأعدوها فضيحة لي. أما عميد الكلية فقرَّر أن يتصل بأبي الحنون ليستدعيه لدفع تعويض لخطيب الحرباء ليسكت ويقوم بلملمة الموضوع".

وأكمل ماجد القصة:

"ولأنك تعلم أن أباك حنون قمت بتحمل الهجار أنت ودفعته من جيبك".

قال عماد وقد احمرت عيناه وقد عجز عن لملمة تلك العبرات:

"اتصلت بأختي المتزوجة وشرحت لها الموقف، فأسرعت برهن ذهبها وإرسال ثمنه، وأنا إلى اليوم أسدد لها بالتقسيط ما قمت بأخذه منها قبل أن يعلم زوجها… إلى اليوم وأنا أقسم لها ولكل من سمع بقصتي أني بريء من دعوى فؤاد وعقربته السامة، لكن فؤاد لم يصدقني، وأختي لم تصدقني، وزملاء الجامعة لم ولن يصدقوني".

نظر ماجد إلى عصفورة واقفة على إحدى الأشجار وقال بنبرة حزن عميقة مفعمة بخيبة الأمل والصدمة:

"لا أعرف ما اسمها الحقيقي فعندي كانت هدى وعندك اسمها رباب ومن يعلم كم من الأسماء لها.. لكني متأكد أن فؤاد هو أدهم زميل الثانوية المتنمر".

التفت عماد إلى ماجد حائر اللب مندهشًا وكأن صاعقة قد صفعت خده:

"ماذا تقول يا ماجد من هو أدهم؟ "

فأجاب ماجد مبتسمًا ابتسامة عبثية:

"الذي كان مع ربابك هو أدهم الذي حكيت لك عنه بشحمه ولحمه، وقد أرسلت هدى لي ذات الرسالة وقابلتني عند ذات المكان ومضمون الرسالة هو ذات المضمون!"

أسرع عماد إلى صاحبه يريد رؤية الرسالة وعندما رآها تأكد بما لا يدع مجالًا للشك أن شوك البراءة قد طال طريقه هو أيضًا، وأن فؤاد، ذلك الشاب الغيور الذي خدعته خطيبته المريضة ما هو إلا عنصر من عناصر النصب والاحتيال.

ضرب بقبضته ركبته بقوة ثم نهض متشنج السواعد يود التهامه قائلًا:

"والله لن أتركه ذلك الصعلوك إلا مجدع الأطراف".

نهض ماجد مربتًا عليه وفي ذاكرته يلوح مشهد أدهم وهو يبحث عن شيء ما في أول يوم التقاه. كان يربت على صاحبه وهو في أمس الحاجة لمن يربت على قلبه

على الأقل فهو لم يدفع ألف دولار ثمنًا لبراءته كما دفع عماد.

اقرأ ايضا رواية هرارة الرماد روايات رومانسية 

شاهد فيديو حين يكون الشغف طريقك 

وعندما بردت ثورة صاحبه، جلس بهدوء وكتب إلى هدى رسالة قصيرة فحواها:

"قولي لأدهم أن دربي لم يعُد شائكًا بالبراءة وأعاهد الله أن أسترد لعماد صاحبي حقه منكما".

النهاية.

رأيك يهمنا

أحدث أقدم