قصة قل لي كيف أنجو منك قصص قصيرة جزء ٢٧ - أنامل عربية

الحياة شيئا فشيئا تعلمك كيف تكتشف دواخل الآخرين، دون أن تقترب منهم ملامحهم وهيئاتهم عبارة عن بطاقة تعريف غير مباشرة يكفي أن تكون لماحا لتغوص بهم دون المساس بإنسانيتهم.

قصة قل لي كيف أنجو منك أنامل عربية
نوال

قصة قل لي كيف أنجو منك _ الأب الفيلسوف  

قد يخيل لنا أننا نعرف الأشخاص جيدا، أو قد يتهيأ لنا أننا نعرف ما يخالج دواخلهم، لكن في الحقيقة داخل كل إنسان إنسان آخر لا نعرفه.

هناك بعض المعارك لم نسمع عنها بقيت حبيسة في ساحة المعركة، تلك الآثار التي خلفتها يبقى أثرها متغلغلا في الأعماق لا أحد يعرف عنها سوى صاحبها فيبقى عاجزا عن البوح.

البوح أحيانا كالرصاصة في جيب العدو ستقتلك عندما تصبح وليمة في حضرة الذئاب فمن النادر جدا أن تجد من يحفظ سرك لأن أسرارك ستجعلك عاريا في ميادين الحرب فتعلم أن تكتم كل ما يجول في داخلك لكي لا تنكشف وتصبح لقمة سائغة في عقول الآخرين. 

وجدت نوال هذا النص في مذكرة أبيها، وقالت يا له من فيلسوف الحياة جعلت منه شخصا حكيما، أعجبت بقلم أبيها كثيرا وتمنت في أعماقها أن تصل لهذا العمق المعرفي، أعادتها للدرج والتفتت لوالدها وسألته 

نوال : أبي هل لي بسؤال؟ 

 الأب: بالطبع. 

نوال : كيف يصل الإنسان للنضج بالنسبة لك؟ 

الأب: في الحقيقة يا ابنتي ليس للنضج طريقة أو وصفة نتبعها فمثلا جملة الشهيرة التي يقولها الكثيرون "لو كنت مكانك لفعلت كذا..." أنا أراها جملة خاطئة تماما، لأنني لا يمكنني أن أشعر بما تشعر به، أو أفكر بما تفكر به، ولست بمكانك، زاويتي ليست زاويتك، وجرحي ليس جرحك، معاناتي ليست هي معاناتك، واخفقاتي ليست هي اخفاقاتك، وقدري ليس قدرك، أنا أجد أن التجربة والبلاء هما معلمان جيدان للفرد، لكن بشرط أن يكون هذا الفرد على استعداد ليتخلى عن الأنا الضخمة بداخله، ألا يتكبر على جند من جنود الله. 

قصة قل لي كيف أنجو منك - نجوى المهندس
فهم نوال 

قصة قل لي كيف أنجو منك - المفاهيم 

نوال : كيف ذلك؟ 

الأب : المصائب جند من جنود الله تجعلك تتعرف على نفسك بكل شفافية، لا يمكن أن تقول عن نفسك عفيفا وأنت لم تختبر بعد، ولا يمكن أن تقول عن نفسك صبورا وأنت لم تمتحن بعد، ولا يمكن أن تقول عن نفسك عزيزا وأنت لم تذق مرارة الذل والإهانة، الحياة لا تأخذ بالشعارات الرنانة بل بالمواقف ويبقى الأمر متروك لك إما أن تنكمش وتستسلم أو تواجه وفي المواجهة إما النجاة أو الإخفاق. 

نوال : وهل الإخفاق يعني الفشل؟ 

الأب : الإخفاق معلم آخر تلتقيه في طريقك يا ابنتي، الإخفاق هو صمام الأمان بشكل آخر، هو ركن ضروري في رحلة النضج الطويلة، هو نافذة تجعلك تطل على الحياة بمنظور أقرب للحقيقة، دون تجميل أو تزييف، ينتزع منك الأنا المتضخمة، ويقول لك بصوت مرتفع لقد أخطأت أعد الكرة مرة أخرى، انظر بعين البصيرة لا البصر. 

نوال : وما الفرق بين البصر والبصيرة؟ 

البصر يا عزيزتي ما ترينه بالعين المجردة، الجدار لونه أبيض على سبيل المثال أما البصيرة فترينه بمنظور أعمق كم سمع هذا الجدار من تأوهات وكم شهد على انهزامات غير معلنة كم من مريض تحدث معه، كم من دموع انهمرت وصدور انقبضت من شدة الألم. 

نوال : أحسست اليوم بأنني جالسة مع فيلسوف وليس أبي هذا رائع. 

الأب : نوال، الفلسفة لا تنحصر فقط في الرفوف داخل الكتب وهي ليست للنخبة فقط، الفلسفة مفهوم أعمق، المواطن العادي الذي يراه المجتمع المثقف، قد يكون موسوعة من الحكم لأنه اختبر الحياة من أقرب نقطة، الفكر لا يأتي من المدرسة والكتب، الفكر يأتي بعدد الإخفاقات، الصراعات ،التحديات،المخاوف... الخ....

لكن من يصل لهذه المرحلة من الحكمة هو الشخص الذي يعترف بأنه ناقص وغير مكتمل، وأنه ضعيف، وبصيرته محدودة وعقله محدود ويكون كالطفل دائما يريد معرفة المزيد لأقرّب الفكرة أكثر، الشخص الفضولي دائما يصل لوجهته، وبالأخص الفضول المعرفي وليس الفضول لتقصي أخبار الناس وتصيد أخطائهم عندما يدرك المرء أننا لسنا مثاليين، عندها فقط يدرك أن لكل شخص دور في هذه الحبكة وهذه الأخيرة تشبه لعبة البازل نحتاج لكل قطعة لتكتمل الصورة ويكتمل معها المشهد. 

ومن يعملق نفسه تأكدي فهو صغير بعين نفسه قبل الأخرين. 

نوال : رائع أدهشتني وماذا عن الفشل؟

ذكرتني بالفشل هو عبارة عن خلطة غير متجانسة لكن الهدف منها هي اكتشاف الهفوات لنصلحها ولكن بطريقة قريبة للإحتراف، الطريقة الأولى التي حضرتي بها أول كعكة تذكرينها، كانت يابسة تشبه الحجر، فشلت بالمرة الأولى، لأنك لم تكن لك خلفية عن طريقة التحضير وكيف تتصرفين، 

أي الفشل هو ركن الطوارئ يعلمك كيف تتجنبين الاصطدمات في المرات المقبلة بشكل واعي وخلفية ممتلئة لا فارغة، المعدة الفارغة تجعل الجسد يأكل نفسه بينما المعدة الممتلئة تقوم بوظيفة الهضم ويكون الجسد سليما، كذلك الفشل هو الينبوع الذي تشربين منه كيف لا تقعين في الإخفاقات بشكل متكرر فيكون العقل سليما.

نوال : سأعترف لك بشيء يا أبي، أنا قرأت نصا في مذكرتك وأذهلني ما كتبته.

الأب : لقد رأيتك وأنت تقرأينه لم أكن نائما.

نوال : لمَ لمْ تعترض؟

الأب : لأنني أعلم جيدا أنك مشروع فيلسوفة قادمة.

نوال : أحقا تراني هكذا.

الأب : نعم كنت أفرح كثيرا عندما أراك تقرأين الكتب واخترت الكتاب صديقك وهذا خير ما فعلت. القراءة المثمرة ليست هي بالكمية بل بالكيفية مع الوقت سوف تعرفين كيف تختاري ما يناسب فكرك، وسينمو عندك حس النقد، ولن تسلمي عقلك لكل ما تقرأين، أحيانا كثيرة سوف تعارضين الكاتب، وأحيانا أخرى سيجعلك تتواجهين مع صراعاتك، القراءة نوع آخر لتهذيب النفس صدقيني، 

سأخبرك سرا يا عزيزتي لازلت للآن أقرأ لم أتوقف عنها يوما فهي أنقذتني من الإنهيار.

قصة قل لي كيف أنجو منك للكاتبة نجوى المهندس
انبهار نوال 

قصة قل لي كيف أنجو منك - القوقعة 

نوال : رائع وما آخر كتاب قرأته.

الأب : القوقعة للكاتب مصطفى خليفة عن معتقل في السجون السورية، كتاب جعلني أحبس انفاسي وأذرف الدموع على أناس لم أعرفهم لكن سمعت حكاياتهم وتأثرت بها وكتبت لهم رسالة في مذكراتي. ناول الأب المذكرة لابنته مسكتها وهي مصدومة لكن سرعان ما استدركت واستوعبت وجلست وقرأت النص.

هذا أنا الإنسان الذي تلصص على حكايتكم من خلال رواية، قد يراها البعض مجرد كتاب له واجهة محتواه صفحات، لكنني أنا رأيتها من ذلك الثقب الصغير بأعماقي، لأصدقكم القول أنتم أبطال في نظري، لقد مورس عليكم شتى أنواع التعذيب و بكل وحشية وهنجعية ومع ذلك صمدتم،

لو كنت مكانكم لجبنت، نعم أنا لا أملك شجاعتكم سأعترف لكم فأنا مع أول صفعة خذلان تهدمت، بكيت عندما أعدمتم وقرأت الفاتحة على أرواحكم ، انقهرت عندما تم تجويعكم قلت مع نفسي كم من خيرات بين يدي وأنا أشكو فاستحيت منكم ، أما عن تلك الهرولات كأنها سقطت علي أنا أحسست بوقعها على جسدي انكمشت تصلبت تألمت لم أجد ما أواسي به نفسي فكيف أواسيكم، انصعقت من بطولاتكم، رغم القمع والحصار والاختلاف في العرق والدين إلا أنكم كنتم يد واحدة، 

تضامنتم وداويتم جراحاتكم لم تستسلموا فهنيئا لكم، تلك الجدران المتهالكة شاهدة على انتصاراتكم،

وبكائكم الصامت وضحكاتكم الخافتة، صلواتكم التي حافظتم عليها رغم منعكم أنتم حق مثال للصمود شكرا لكم فمن خلالكم تعلمت الكثير ، موتاكم أحياء ومن نجى منكم فهو صلب لا يقهر، أعلم أن عدوكم اللدود ذاكرتكم كلما تذكرتم انتكستم، لكن ما صبرتم عليه لن يذهب سدا فهو مسجل في سجلات السماء وستجزون خيرا إن شاء الله. فسامحونا يا أبطال. 

شاهد فيديو عندما ذكرتك الروح 

بكيت نوال انكمشت على وجهها وبكى والدها معها ركضت إليه كما يهرب السجين من سجانه، مسحت جبينه واحتضنته وقبلت رأسه ويديه وقالت له أنت صاحب أجمل عقل وقلب يا أبي، سامحني إن تجرأت يوما عليك وقلت ما ليس فيك فقد رأيتك بعين البصر لا البصيرة، اعترف أنني أخفقت في معرفتك.

يتبع....


بقلم الأنامل المغربية:

" نجوى المهندس " 

رأيك يهمنا

أحدث أقدم