قصة رسائل ورد وقلب سليم
في ظلال الزمن وعبق الماضي، تلتقي "ورد" ببراءة لا تعرف حدودها، و"سليم" بقلب يحمل أوجاعه وأسراره. بين رسائل مكتوبة بصمت، ومساعدة صامتة تخفي وراءها قصة دفينة، ينشأ رابط غامض يجمع بين شخصين مختلفين، يحملان معاً قصة حبٍ غير مألوفة.
هل تكفي الكلمات لوصف ما في داخل القلوب؟ وهل تستطيع البراءة أن تداوي القلب الجريح؟
انضموا إلى رحلة "رسائل ورد وقلب سليم"، حيث تنبض الأرواح خارج حدود اللقاءات المباشرة، وتُكتب الحكايات في صمت الرسائل.
قصة رسائل ورد وقلب سليم - ورد
كنتُ أسمع صدى الحكايات في أروقة دار الأيتام كما تُسمع القصائد من خلف الجدران؛ شيء جميل وبعيد، كالحلم الذي لا يُمسك.
كبرتُ في دار "أمان الطفولة"، اسمي "ورد"، وليس لي من اسمي نصيب إلا أنني كنت أُزهر رغم ما ذبل مني.
لم أعرف حنان أمّ، ولا دفء أب. كانت الدنيا تسقيني درس الفقد كلّ يوم، لكنني كنت أقاوم بالفكرة، بالحرف، بالقراءة.
لم تكن دار الأيتام سوى جدار طويل بيني وبين الحياة. كنت أراقب البنات من خلف النافذة، يحملن حقائب المدرسة ويضحكن، بينما كنت أحمل الكتب القديمة التي تبرّعت بها إحدى المدارس المجاورة.
![]() |
ورد |
كنتُ أكتب كثيراً. أملأ دفاتر المدرسة بأحلامي، وأطوي الليالي بين كتب نزار ومحمود درويش، أحاور طه حسين وأجادل جبران، تساعدني مديرة الدار في نشر ما اكتبه في المجلات الورقية والمدونات الالكترونية لما استشعرته من ابداع في كتاباتي.
وفي عيد ميلادي الرابع عشر، استدعَتني مديرة الدار، وقالت لي بابتسامة غريبة:
"ورد، هناك من قرأ لكِ، حيث شاء الله أن يكتب لكِ مستقبلاً باهراً."
وقبل أن أسأل، ناولتني ظرفاً فيه تفاصيل منحة دراسية في مدرسة خاصة مرموقة. كل شيء كان مدفوعاً، الكتب، الملابس، حتى مصاريفي الخاصة.
وكان مرفق داخل الظرف ورقة صغيرة:
اكتبي لي.. كل شهر، كما لو كنتِ تكتبين لصديق يعرفك أكثر من نفسك، وسلمي الرسائل لمديرة الدار اريد ان اتابع نجاحاتك، لكن بشرط لا تسألي عني ابداً.
موقعة فقط بحرف واحد "س."ذهلتُ. من؟ لماذا؟ كيف؟
لكن لم تُجِبني إلا بابتسامة خفيفة وكلمة واحدة:
"فاعل خير."
جاءتني منحة، رجل مجهول تكفّل بكل شيء. لا اسم، لا وجه. فقط توقيع غامض بحرف "س"، ورسالة قصيرة:
"اكتبي لي، فقط اكتبي. أنا أقرأ."
وهكذا بدأت رحلتي.
ومنذ ذلك اليوم، بدأت أكتب رسائل شهرية. كنت أسرد له تفاصيل حياتي، من نجاحاتي الصغيرة، إلى لحظات ضعفي التي لا أُظهرها لأحد.
كان لا يرد، أبداً، لكن شعوراً داخلياً يخبرني أنني مسموعة، وأن هناك من يقرأ بعيون قلبه.
من هو؟ لماذا أنا؟ وما قصته؟
كنت أخمّن، ربما رجل ثري يشعر بالذنب، أو شاعر اعتزل الناس، أو حتى معلم فقد ابنته.
لكنني لم أعرف.
لم أعرف اسمه يوماً. كان اسمه في حياتي مثل النسيم العابر لا يُرى، لكنه يُشعَر.
قصة رسائل ورد وقلب سليم - طفولة ورد
كنتُ يتيمة الأبوين منذ نعومة أظفاري، نشأت في دارٍ صغيرة للفتيات في أطراف المدينة القديمة، حيث كانت النوافذ تطلّ على سور عتيق، وكانت الأماني تُخبّأ في دفاتر المدرسة بين السطور.
لم تكن طفولتي سهلة، لكنّني لم أكن أطلب الكثير، فقط زاوية هادئة وكتاب دافئ، وصوتٌ لا يصرخ في وجهي.
لم يكن في الدار ما يلفت النظر، لكن في داخلي شيء كان يُصرّ على الحلم، حتى لو كانت الدنيا تقول لي عكس ذلك.
كنت أكتب، أكتب عن كل شيء، عن الشجرة التي أراها من النافذة، عن البنات في الدار، عن خوفي من الغد.
ذات يوم، أعطتني مدرّسة اللغة العربية دفتراً صغيراً وقالت:
"هذا لكِ، اكتبي فيه كل ما تتمنينه في هذه الحياة، لا أحد سيقرأه إلا الله، وربما ملاك طيّب."
![]() |
الرجل المجهول |
قصة رسائل ورد وقلب سليم - مدرسة ورد الخاصة
كانت المدرسة جديدة، كبيرة، فاخرة، وكل شيء فيها يلمع.
البنات يملكن هواتف حديثة وحقائب بعلامات مشهورة. أما أنا، فكنت أملك قلماً جافاً وبعض الدفاتر، ورسالة واحدة أنتظر أن أكتبها كل شهر.
كانت الكتابة له طوق نجاتي.
كانت المدرسة الجديدة كأنها كوكب آخر. فتيات أنيقات، فصول مزينة، ومكتبة واسعة بعطر الورق الجديد. شعرت بالغرابة، بالخوف، وبالإصرار أيضاً.
لكنني لم أكن وحدي، كنت أكتب له.
قصة رسائل ورد وقلب سليم - رسالة ورد الأولى
عزيزي س،
لا أعلم من أنت، لكنني ممتنة لك. اليوم كان أول يوم لي في المدرسة الجديدة، وقد شعرت أنني دخلت إلى عالم آخر.
لا أحد يعرف من أين أتيت، وهذا يمنحني شيئاً من الحرية، لكنني ما زلت أشعر بالغربة. أخاف أن أتحدث كثيراً، فأفضح لهجتي البسيطة.
اليوم أُعجبت بمكتبة المدرسة، شعرت أنها بيت لا يطرد أحداً.
ورد
قصة رسائل ورد وقلب سليم - ورد تتفوق في اللغة العربية
سيدي س،
حصلتُ اليوم على العلامة الكاملة في مادة اللغة العربية، وقد طلبت مني المعلمة أن أقرأ مقالي أمام الفصل.
حين انتهيت، صفقوا لي، لكن في قلبي، كنت أصفق لك.
أشعر أنني أصبحت أعرفك دون أن أراك، كأنك ظلّي الذي لا يسبقني، ولا يتأخر عني.
شكراً لأنك تصدّق أن في داخلي شيئاً يستحق أن يُروى.
استمرت ورد في تفوقها الدراسي وكتابة الرسائل للرجل المجهول.
سيدي الغامض..
اليوم شعرت أنني فتاة من عالم آخر. نظرات البنات لي فيها شيء لا أفهمه.. هل هو شفقة؟ دهشة؟ استغراب؟
لكنني وعدت نفسي أن أكون الأفضل، لا لأجلهم، بل لأجلك.
لأنك اخترتني من بين كثيرات، وآمنت بي دون أن تعرفني.
اعدك انك ستكون فخوراً بي في المستقبل، حتى وإن لم تردّ."
ورد
مع الأيام، بدأ بعض الأساتذة يلاحظون تميزي في اللغة والأدب. ذات مرة كتبت مقالاً عن "الهوية في زمن الاغتراب"، وأثار إعجاب الجميع.
فأرسلت له الرسالة التالية:
"سيدي س...
كتبتُ اليوم مقالاً قرأه الجميع، لكنني كنت أتمتم في داخلي، ليت الذي ساعدني للوصول هنا، قرأ ما كتبت.
هل تقرأ رسائلي حقاً؟ أم أنني أكتب للريح؟
على كل حال، الريح أيضاً تحمل الرسائل، أليس كذلك؟"
ورد
قصة رسائل ورد وقلب سليم - ورد أثناء دراستها الجامعية
ومرت الايام و دخلت ورد الجامعة بتفوق، واختارت دراسة الأدب المقارن كان الرجل المجهول مازال يغطي مصاريف دراستها عن طريق مديرة دار الايتام.
غاصت في عوالم الأدباء، من دوستويفسكي إلى نجيب محفوظ، وبدأت تُنشر لها مقالات قصيرة في مجلة أدبية شبابية.
كبرت، ونضجت، لكن الطفلَة في داخلها ظلّت تتوق إلى ذلك الشخص الذي آمن بها يوماً، دون أن يراها.
في أحد الأيام، واجهت ورد موقفاً مؤلماً حين اتُّهِمَت زيفاً بسرقة مقال كتبته هي أصلاً. وكان ذلك أول سقوط لها في حفرة الظلم.
"س...
اليوم شعرت بالعجز. اتُّهِمت بسرقة مقال كتبته بروحي، لأنني لا أملك اسماً كبيراً، ولا ظهراً.
لكنني تذكرتك.. تذكرت أنك رأيتني يوماً دون اسم، وأعطيتني فرصة لأكون.
لذلك لن أتوقف. سأنهض، وأُكمل، لأني أكتب لك."
ورد
في السنة الرابعة، حصلت على منحة لحضور مؤتمر أدبي، وكان ذلك نقطة تحوّل.
![]() |
مؤتمر |
"س...
حين كنت أجلس في القاعة الكبرى، وأتحدث عن صوت المرأة في الأدب الشرقي، تخيلتك بين الحضور، تبتسم لي.
لا أعلم من تكون، لكنك كنت هناك، في صوتي، في ثقتي، في قلبي.
إن كان لي أن أرد لك شيئاً، فهو أن أُصبح نوراً كما كنت أنت لي."
ورد
اقرأ ايضا حكايات الجدات القديمة في ليالي الشتاء
قصة رسائل ورد وقلب سليم - تخرج ورد من الجامعة
مرّت السنوات، وتخرّجت بامتياز، وأصبحتُ محاضرة في الأدب العربي، وبدأتُ أحقق أحلامي ببطء، لكنّي لم أتوقف عن الكتابة له. رسائل امتنان، أسئلة لا يُجاب عنها، وبوح لا يُردّ عليه.
![]() |
تخرج ورد |
وفجأة في أحد الأيام، وصلتني رسالة من مديرة الدار للرجل المجهول.
"ورد، أنا من كنتُ أقرأ رسائلك، وسأكون نورك إن أردتِ.
إن كنتِ تريدين رؤيتي كما اريد أنا.. تعالي إلى مكتبة "الريحان" القديمة، الجمعة عند المغيب، أريد أن أراكِ."
ذهبت. وكان قلبي يركض قبلي.
حين قرأت "ورد" الرسالة، شعرت أن الأرض مالت قليلاً تحت قدميها، وكأن الكلمات انسلت من الورقة إلى قلبها مباشرة.
"أريد أن أراكِ"
جملة قصيرة لكنها كانت كأنها زلزال عاطفي.
كم حلمت بتلك اللحظة، وكم خفتُ منها في آنٍ واحد.
لسنوات، كنتُ أكتب له وكأني أكتب للغيم، للورود، لشيء بين السماء والروح... لم أكن أظن أن الحلم قد يتحول إلى حقيقة.
ارتعشت أصابعها وهي تعيد قراءة السطر مراراً، كأن عقلها يرفض التصديق وقلبها يركض نحو الاحتمال.
كل الرسائل التي كتبتها له مرّت في ذهنها كموكبٍ من الذكريات، ضحكتها في رسالة، دمعتها في أخرى، صمتها الطويل حين لم تكن تعرف ماذا تقول.
هل سيعرفها؟
هل سيجد فيها الطفلة التي كتبَت له أول مرة، أم المرأة التي صارتها اليوم؟
هل سيبقى كما كان في خيالها، كريماً، صامتاً، نبيلاً.. أم أن اللقاء سيُسقِط عنها الحلم؟
لكن الأهم من كل ذلك..
هل قلبه ما زال يقرأها، كما كان؟
شعرت بدفء غريب يسري في جسدها، بين الخوف والحنين والرجاء.
قصة رسائل ورد وقلب سليم - اللقاء بين ورد والرجل المجهول
كان الشتاء يخطّ أولى قطراته على أرصفة المدينة. الهواء بارد، والسماء موشومة بغيم ثقيل، كأنها على وشك البكاء..
تماماً مثل قلبي.
وصلتُ إلى مكتبة "الريحان" القديمة، كما كتب لي.
الباب نصف مفتوح، ورائحة الكتب العتيقة تعبق في الممر، كأن الزمن نفسه قد توقف ينتظرني.
دخلتُ بخطى حذرة.. وكل نبضة في صدري تصرخ،
"هل هو حقاً هنا؟"
كان ظهره لي، واقفاً أمام رف فيه كتب الشعر العربي القديم.
شعره فيه بعض الشيب، وكتفاه عريضتان كأنهما حَمَلا من الحياة ما لا يُقال.
رأيته هناك، بين رفوف الكتب القديمة، رجل في أواخر الأربعين، وسيم، يلبس قميصاً رمادياً بسيطاً، وعيناه.. عيناه فيهما وجع لا يُخفى، ودفء لا يُشترى.
قلت بهدوء:
"كنت أكتب لك دون أن أعرفك.. والآن، لا أعرف كيف أتحدث إليك بعدما عرفتك."
![]() |
ورد وسليم |
قصة رسائل ورد وقلب سليم - سبب مساعدة سليم لورد
سليم لم يكن رجلاً معتاداً على العطاء العشوائي، بل كان رجلاً يحمل وجعاً قديماً، وجعاً على هيئة طفلة تُدعى ميّ، أخته الصغيرة، التي فقدها في طفولته بسبب الفقر والمرض.
كان سليم في العاشرة من عمره حين ماتت ميّ بين يديه، بعد أن تخلّف والده عن شراء الدواء لها، لعدم توفر المال.
ذاك العجز ظلّ مطبوعاً في صدره... سنوات مرت وهو يحمل صوت بكائها الأخير، ولم ينسَ.
وحين كبر، وأصبح مهندساً ناجحاً، بدأ ينفق جزءاً من ماله على تعليم الأيتام.
لكن "ورد" كانت مختلفة.
قرأ رسالة لها ضمن مشروع خيري، وكانت تحكي فيها عن حلمها بأن تصبح كاتبة، وتصف شعورها بالوحدة والبرد في ليالي الشتاء.
كأنها كانت ميّ قد عادت، أكبر قليلاً...
نفس البراءة، ونفس الحزن الصامت.
وقتها قال في نفسه:
"لن أدع ورد تسقط كما سقطت ميّ.. هذه المرة، سأفعل شيئاً."
وهكذا، تكفّل بكل مصاريفها.. دون أن يعرّفها بنفسه. لم يكن يريد شكراً، بل أراد أن يُصالح ذنبه القديم، ويمنح قلبه الجريح فرصة للغفران.
وفي رسائلها، كان يجد الدفء الذي افتقده لسنوات. وكأن ورد، دون أن تدري، أعادت له إيمانه بالحب، بالحياة.. وبنفسه.
استدار ببطء.. ونظر إليّ.
تلك النظرة.. لم تكن نظرة رجل غريب، بل نظرة من رأى وجهي في كلماتي آلاف المرات.
ابتسم، وكان في ابتسامته شيء من الغياب وشيء من الحنين.
قال:
- "ورد.. كم مرة قرأتك حتى شعرت أنني أعرف نبرة صوتك، حتى دون أن أسمعها؟"
اقتربتُ خطوة.
- "لماذا لم تكتب لي يوماً؟"
أجاب، وعيناه لم تفارقني:
- "لأنك كنتِ تكتبين لي بكل صدق. ولم أشأ أن أُفسد ذلك النقاء بالرد.
كنت أقرأك كما يقرأ الإنسان دعاءه.. لا يرد عليه الله، لكنّه متأكد أنه مسموع."
![]() |
ورد وسليم |
نظرت إليه وقلت، بصوت مرتجف:
- "وأنا.. لم أحبّ أحداً كما أحببتك دون أن أراك.
كنت دفئي حين كنت وحدي، وأماني حين كنت خائفة."
اقترب أكثر، وقال بهمس:
- "هل لي أن أبقى؟ أن أكون معك لا خلف الورق، بل أمامك، يداً تمسك يدك، لا رسالة تقرأ فقط؟"
أومأتُ برأسي.. والدمع في عيني.
ولأول مرة..لم أكتب له، بل عِشت معه.
راااائعة و مؤثرة
ردحذف