وفي جنوب بلاد الرافدين، حيث تلتقي دجلة والفرات، وُلد عالم جديد وضع حجر الأساس لكل ما نعرفه اليوم من كتابة وقوانين ومدن وتنظيمات اجتماعية.
مهد الحضارة السومرية
نشأت سومر في منطقة دلتا العراق الجنوبي، في مدن أصبحت لاحقاً أسماء خالدة مثل:
أوروك، أريدو، لكش،أور،نيبور.
ورغم بساطة الظروف الطبيعية، استطاع السومريون تحويل المستنقعات إلى أرض خصبة تُعطي القمح والشعير، وتحتضن المدن والمعابد والقصور.
الحضارة السومرية - الكتابة المسمارية البداية الحقيقية للتاريخ
يقول العلماء إن "التاريخ يبدأ عندما يبدأ الإنسان بالكتابة"، وبذلك يكون السومريون هم أول من دوّن التاريخ.
اخترع السومريون الكتابة المسمارية حوالي 3200 ق.م، وكانت في البداية رموزاً بسيطة للحساب والتجارة، ثم تحولت إلى:
نصوص دينية، أساطير، قوائم الملوك، القوانين، الطب والعلاج.
الحسابات الزراعية.
وبفضل هذه الألواح، نعرف اليوم تفاصيل قصص مثل ملحمة جلجامش، وقائمة الملوك، وأقدم قصة طوفان معروفة للبشر.
![]() |
| الكتابة المسمارية |
الحضارة السومرية - المدن والتخطيط الحضري
كانت مدن سومر من أوائل المدن المنظمة في العالم. فقد ابتكر السومريون:
تخطيط الشوارع، بناء المعابد الكبرى (الزقّورات)، أنظمة الري والقنوات، تقسيم المدن إلى أحياء مهنية، طرق للتجارة والصناعة.
مدينة أوروك مثلاً كانت تُعد أكبر مدينة في العالم في زمنها، يسكنها أكثر من 40 ألف نسمة، ولها أسوار ضخمة ذكرتها الأساطير نفسها.
التقدّم في العلوم والتقنيات
رغم أنَّ عمرها يعود إلى 3000 سنة قبل الميلاد، فإن التطوّر العلمي في سومر يُدهش العلماء حتى اليوم. من أبرز إنجازاتهم:
1. علم الفلك والوقت
تقسيم الساعة إلى 60 دقيقة، تقسيم الدائرة إلى 360 درجة، مراقبة حركة الكواكب، وضع تقويم يعتمد على القمر والشمس.
هذه الأسس لا نزال نستخدمها حتى اليوم!
2. الرياضيات
استخدم السومريون نظاماً رياضياً متقدماً يقوم على الرقم 60، ما سمح لهم بوضع:
عمليات حساب معقدة، جداول الضرب، حسابات هندسية للبناء والري.
![]() |
| علم الفلك |
3. الطب
دوّنت الألواح السومرية:
وصفات طبية، جراحات بسيطة، علاجات عشبية، تعليمات حول تشخيص الأمراض.
وكان الطب لديهم مزيجاً بين التجربة العملية والدين.
4. الزراعة والري: ابتكروا: نظام ري متكامل، قنوات وسدود، أساليب لقياس منسوب المياه، طرقاً لحفظ المحاصيل وتنظيم الزراعة الموسمية.
الحضارة السومرية - النظام السياسي والقانوني في بلاد سومر
السومريون كانوا أول من وضع مفهوم الدولة المنظمة، مع:
سلطة مركزية، جيش، ضرائب، قوانين مكتوبة.
ومن أشهر هذه القوانين لاحقاً قانون أور-نامو، وهو أقدم من شريعة حمورابي.
الدين والأساطير
كان الدين ركناً أساسياً من حياة السومريين. ولم تكن معابدهم مجرد أماكن للعبادة، بل:
مراكز للتعليم، مخازن للغذاء، مؤسسات لتنظيم المجتمع.
وتُعد أساطيرهم مثل:
جلجامش، إنانا، إنليل، إنكي.
نواة الأدب الديني والقصصي الذي أثّر على حضارات لاحقة كالبابلية والآشورية.
الحضارة السومرية - التجارة والشبكات العالمية الأولى في سومر
وصلت تجارة السومريين إلى: الخليج العربي، الهند، الأناضول، وادي السند.
وكانوا يستوردون النحاس والأخشاب والأحجار الكريمة، ويصدّرون: الحبوب، النسيج، الفخار، الأعمال المعدنية.
ذلك جعل سومر مركزاً اقتصادياً عالمياً مبكراً.
لماذا كانت حضارة سومر متقدمة؟
لأنهم: ابتكروا الكتابة، أسسوا المدن، نظموا المجتمع بقوانين، بنوا اقتصاداً واسعاً، قدّموا معرفة علمية متقدمة في الفلك والرياضيات، تركوا إرثاً فكرياً ما زال يدرس حتى اليوم.
لقد عاش السومريون في زمن لم يعرف فيه العالم حضارة أخرى قادرة على مقارنتهم، ولذلك يُقال إنهم بداية الحضارة الإنسانية بكل معنى الكلمة.
اقرأ ايضا مقال المتحف المصري الكبير هدية مصر الى العالم بعد عشرين عام من الأنتظار
يوم في سومر الحياة كما كانت تُعاش قبل خمسة آلاف عام
لم يكن فجر الحضارات مجرد تاريخ منقوش على ألواح الطين؛ بل كان حياة تنبض في أزقة المدن السومرية، حيث صوّت الحرفيون، وضجيج الأسواق، وصلوات المعابد، وسكون الحقول الممتدة على ضفاف دجلة والفرات.
في ذلك الزمن كانت سومر أشبه بعالم ينهض للمرة الأولى، يبحث عن لغة، وموسيقى، وأحلام، وترتيب للكون.
الفجر عندما تستيقظ المدينة قبل الشمس
تبدأ الحياة في سومر باكراً.
قبل أن يتسلل الضوء إلى سطوح البيوت الطينية، كانت النساء يوقِدن الأفران لصنع الخبز، يُسمّى نِنْدا، وتنتشر رائحة الشعير الحار في الأزقة الضيقة.
يرتدي الرجال ملابسهم المصنوعة من الكتّان الخشن، ويحملون أدواتهم متجهين نحو الحقول، والورش، والمعابد أو النهر لجمع المياه.
كانت الحياة بسيطة، لكنها منظّمة بشكل مدهش.
الحضارة السومرية - الزقّورة قلب المدينة النابض
في وسط كل مدينة سومرية ترتفع الزقّورة، المصطبة العملاقة ذات الدرجات الصاعدة نحو السماء.
هناك يعمل الكهنة والكتبة، وتُقدّم القرابين للآلهة، وتُناقش شؤون المدينة.
المعبد ليس مكاناً للعبادة فقط؛ إنه مركز للعلم ومكتب للضرائب، بنك لحفظ الحبوب ومدرسة لتعليم الكتابة المسمارية.
كان الطفل الذي يتعلّم المسمارية يُسمّى “دوبسار”، ويقضي سنوات في غرف صغيرة يخطّ الأقلام على ألواح الطين، يتعلّم الحساب، الزراعة، القوانين، وأسماء الآلهة.
![]() |
| الحياة اليومية في سومر |
السوق ضجيج الحياة وروح المدينة
مع ارتفاع الشمس، يزدحم سوق سومر بمئات الأصوات:
تجار يعرضون الحبوب والتمور، صناع الفخار يضعون جرارهم المشوية، حدادون يطرقون النحاس والبرونز، نسّاجات يعرضن الأقمشة الملونة وصيادون يبيعون اسماكهم التي أُمسكت للتو من النهر.
اللغات المتعددة تتداخل:
السومرية، الأكدية، ولغات التجار القادمين من الخليج ووادي السند.
كانت سومر أول مجتمع عرف التجارة الدولية، وكانت بضائع من الهند وعُمان وتركيا تصل إلى موانئها.
الحضارة السومرية - حياة الريف بين الماء والطين
بعيداً عن المدن، يمتد عالم آخر:
حقول القمح والشعير، وقنوات الري التي تُعتبر أعجوبة هندسية لزمنها.
الفلاحون يعملون بآلات بسيطة لكنها فعّالة:
المحراث الخشبي، السلال لحمل الطين، نواعير المياه والطمي الغني الذي يجلبه الفرات ودجلة كل عام.
هنا بدأت الزراعة المنظمة، وهنا وُلدت فكرة المواسم، والتقويم القمري، وتتبع النجوم لمعرفة وقت الفيضان.
البيت السومري دفء العائلة
البيوت تُبنى من اللبن، وتُرتّب حول فناء داخلي يفتح على السماء.
الحياة العائلية بسيطة:
الأم تُحضّر الطعام، الأب يعمل خارج المنزل، الأطفال يلعبون بالطين والحجارة. والبنات يتعلّمن الغزل.
الأولاد يساعدون في الحقول أو يتدرّبون ككتبة، وفي الليل، تُضاء المصابيح بزيت السمسم، وتروى القصص عن إنانا، إنكي، وجلجامش.
احتفالات الفرح بنكهة سومرية
يحتفل السومريون بقدوم العام الجديد عبر طقوس “الزواج المقدس” بين الملك وكاهنة الإلهة إنانا، رمزاً لخصوبة الأرض.
كانت الموسيقى حاضرة بقوة:
قيثارات أور الشهيرة، طبول، مزامير، وأغاني تُنشد بلغات لا يزال الباحثون يحاولون فك بعض معانيها.
الاحتفال عند السومريين ليس ترفاً، بل جزء من توازن الكون.
الليل عندما تكتب النجوم قوانين السماء
مع غروب الشمس، يهدأ السوق، وتغلق الورش أبوابها، وتخفت أصوات الكهنة في المعابد.
لكن شيئاً آخر يبدأ:
رصد النجوم.
كان السومريون أول من لاحظ حركات الكواكب، وقسّموا الدائرة إلى 360 درجة، والساعة إلى 60 دقيقة.
يراقب الكهنة السماء من أسطح الزقّورات، ويسجّلون ما يرونه على ألواح طينية، واضعين أسس علم الفلك.
في هذا العالم، يصبح الليل كتاباً مفتوحاً، والكون أعمق مما كان يتخيله البشر.
![]() |
| الاحتفالات في بلاد سومر |
سومر حيث بدأ كل شيء
هكذا كانت الحياة في سومر:
مدينة تستيقظ قبل الشمس، ومعابد تصعد إلى السماء، وأسواق تضج بالحياة، وحقول تنبض بالنهر، وليل يتلألأ بالمعرفة.
إنها حضارة لم تُبنَ على الطين فقط، بل على العقل، وعلى رغبة الإنسان الأولى في الفهم والتنظيم والجمال.
ومن سومر بدأت الكتابة، والحساب، والزراعة، والموسيقى، والمدن، وفيها وُلدت القصص الأولى التي لا يزال العالم يرويها حتى اليوم.
جهود الحكومة العراقية لتطوير آثار السومريين
ترميم وتجديد صالة السومريين في المتحف العراقي ببغداد
في عام 2020 أُطلق مشروع بدعم من UNOPS وAICS الإيطالية، بالتعاون مع State Board of Antiquities and Heritage (SBAH) ووزارة الثقافة العراقية، لإعادة تأهيل "Sumerian Gallery" في المتحف.
الهدف كان خلق مساحة عرض لائقة وآمنة، بتصميم حديث ومسار تعليمي يقدّم القطع الأثرية السومرية بشكل أفضل للزوار.
مشروع “مدينة سياحية و أثرية” قرب مدينة Ur (أور السومرية)
في عام 2025 بدأ العمل في مشروع “Ur Tourism City” مدينة أثرية وسياحية تهدف إلى إحياء جزء من التراث السومري. المشروع يتضمن متحفاً يضم آلاف القطع الأثرية، مسارح، استوديو تصوير، وأحياء تُعيد بناء أجزاء من المدينة القديمة للحياة كوسيلة لجذب السياحة والتوعية بالتراث.
![]() |
| تمثال سومري |
حملات تنقيب وترميم آثار في مواقع متعددة
في 2025 أعلنت وزارة الثقافة والسياحة والآثار عن حملة واسعة للتنقيب والترميم لمواقع أثرية مهمة، ضمن خطة لتفعيل “السياحة التراثية”. هذه الحملة تشمل مواقع في الوسط والجنوب حيث توجد كثير من المواقع السومرية والبعثات الأثرية.استرجاع قطع أثرية مهربة
في السنوات الأخيرة، تمكنت السلطات العراقية من استعادة آلاف القطع الأثرية من الخارج، بينها بعض القطع من حضارات بابلية واشورية وسومرية. هذا يعكس اهتمام الحكومة بإعادة تراث العراق إلى وطنه وعرضه في المتاحف.الحضارة السومرية - التحديات والصعوبات التي تواجه هذه الجهود
نقص التمويل والإهمال
رغم بعض المشاريع، يشكو باحثون وخبراء من أن التمويل غير كافٍ لحماية كل المواقع الأثرية، خصوصاً في مناطق نائية أو مدمرة. بعض المواقع تعاني من التدهور أو تعرضت للنهب نتيجة ضعف الحماية والإهمال.
الظروف المناخية وتغير البيئة
في الجنوب، تزايد ملوحة التربة وانخفاض منسوب مياه الأنهار (دجلة والفرات) ما يهدّد بقاء بعض المباني الطينية والطينية-لبن، التي كانت السومريون يبنون بها. الأثار التي بقيت معرضة لخطر التآكل إذا لم تُعالج بسرعة.
تراث العراق ضخم وموزّع على مناطق كثيرة، الأمر الذي يتطلب تخطيطاً مركزياً واتفاقات فعّالة بين وزارة الثقافة، الجهات المحلية، خبراء آثار، وربما جهات دولية. التنسيق أحياناً يواجه صعوبات سياسية أو لوجستية.
إنّ سومر ليست مجرد حضارة من الماضي، بل هي الجذر الأول لشجرة الإنسانية.






من افخخخم ما كتبت يداك اكتبي لنا المزيد عن الغموض الذي تحتويه قصة الملك جلجامش
ردحذف