لا تزال نوال منغمسة في دهاليز والدها كأنها وجدت كنزا ومتشبثة به حتى الرمق الأخير.
![]() |
نوال تقرأ |
قصة قل لي كيف أنجو منك _ الأب الفيلسوف
العالم الذي يريدوننا أن نراه من خلالهم، ذلك العالم المرعب الذي يخلو من أشكال الرحمة والإنسانية شكله موحش ويوحي للريبة، القلق في تزايد والخوف يقطن داخلنا، فننساق كالأضحية ويتم التضحية بنا بكل بساطة فنعتاد على المشاهدة دون إكثرات، فقد أصبنا بتبلد في المشاعر، تعطلت فينا كل الحواس.
الإعدادات تم ضبطها على نمط واحد وهذا النمط يسمى "عقلية القطيع" لنعرف هذا النمط : يمتاز بعدة عوامل ونذكر منها الآتي: أن نفكر الفكرة نفسها، نذهب الوجهة نفسها، نشتري ما يشتريه الآخرون، وصفة النجاح واحدة، وصفة الشفاء واحدة.
ممنوع أن تكون متفردا حذاري فأنت هنا تصبح عدوهم اللدود، إياك أن يستيقظ القطيع من سباته فهذا يعني حتفك، عالم يهتم بالشكل أكثر من الجوهر، كن كالبهلوان، انشر التفاهة، النتيجة هنيئا لك أنت ضمن عقلية القطيع.
سؤالي لكم هو: هل نحن بشر أم مجرد آلات يتم تحريكها كما يريدون؟ ولي سؤال آخر ما هي الوسيلة التي قامت بهذه الفعلة المشينة ستفجع عندما تعرف من تكون نعم إنها تلك الشاشة الصغيرة التي تقبع في ركن غرفة المعيشة، ليست كأي جماد، فهي تحتوي بداخلها على سم فتاك.
نعم كما قرأت.
الأخبار تدخل الرعب في أنفسنا تتحدث عن الحروب والمجاعة والجفاف ولا تخلو أيضا من تلك المسرحيات بين رؤساء الدول، المشاهد مشتت، برامج دينية تركز على الفسق والعري والتبرج، مسلسلات بلا قيمة إضافية، أفلام تكدس أدمغتنا برسائلها الباطنة ونحن لا نعلم ما الغرض
منها، عفوا بل نعلم لكن رؤيتنا مشوشة ليس إلا، لكن فسحة الأمل لا تخلو بل يوجد هناك أعمال فنية وبرامج وأخبار جيدة لكن يتم محاربتها بشتى أنواع الأسلحة لكن السلاح الفتاك الوحيد الذي يأتي ثماره هو الذي ذكرناه سابقا "عقلية القطيع " لأسئلكم سؤالي الأخير والذي دائما أبحث عن إجابته بإستمرار لكن لم أجد أية إجابة شافية له،
فقررت أن أشارككم إياه لعلكم تفيدونني ويبقى السؤال الأهم بالنسبة لي هل أنت من يقع عليك الاختيار أم هم من قاموا ببرمجتك؟
قصة قل لي كيف أنجو منك - لقاء بعد شهر غياب
المقهى هو المكان الذي يجمع بين نوال وياسر ذلك المكان الذي يشبههم هادئ مثلهم لكن يحمل بداخله حكايا لم تخرج من ذلك القفص، يطل على البحر كما هم يطلون على هواجسهم من نافذة الحياة، الأمواج تشبه نوباتهم المجازية الأماكن التي نعشقها تشبهنا جدا بدون شك.
عاد ياسر من عمله والتقى بنوال في مكانهم المعتاد كأن الطاولة كانت مشتاقة للقائهم أكثر منهم وكأن كأس الحليب بالعسل كان ينتظر متى يرتشف، وكأن فنجان القهوة تعود على الموعد فأصبح الفراق صعبا عليه، الكل متواطئ من أجل إنجاح هذا اللقاء السماء صافية، الشمس دافئة الرياح غائبة، البحر أمواجه هادئة، زقزقة العصافير تعزف سمفونيتها بكل تناغم، الطاولة منتشية بحضورهما الكل قرر أن يحتفي بهم بأسلوبهم ونجحوا في المهمة جميعا.
عندما توجهت نوال إلى الطاولة وجدت ياسر في انتظارها وضعت يدها على كتفه ويا لها من صدفة أغنية كاظم تبدأ.
يدك التي حطت على كتفـي
كحمامـة نزلت لكي تشرب
عندي تسـاوي ألف أمنيـة
يا ليتها تبقى و لا تذهـب
الشمس نائـمة على كتفـي
قبلتهـا ألفـا و لم أتعـب
تلك الجميلة كيف أرفضهـا
من يرفض السكنى على كوكـب
قولـي لها تمضـي برحلتها
فلها جميع جميع ما ترغـب
تلك الجميلـة كيف أقنعهـا
أني بها معجب بهـا معجـب
يدك الصغيرة طفلة هربـت
ماذا أقول لطفلـة تلعـب
أنـا سـاهر و معي يد امراة
بيضـاء هل أشهى و هل أطيب
تلك الجميلـة كيف أقنعهـا
أني بها معجب ..بهـا معجـب
ياسر حائر بين لعبة القدر في هذه اللحظة وبين إبداع الشاعر السوري نزار قباني وبين احترافية كاظم الساهر في الغناء هام بهذه اللحظة حتى الثمالة كأنه انتشى كأسا من عبق الزمن، قاطعته نوال بتعليقها: أعشق هذه القصيدة وصوت كاظم الساهر جبار.
ياسر : قصيدة رائعة لكن كاظم حذف منها بعض الأبيات.
نوال : وهل تعرفها كاملة.
ياسر: نعم أحفظها عن ظهر قلب، ما رأيك أن ألقيها عليك؟
نوال : أحقا، يسعدني ذلك
عدل جلسته وكح مرة واثنين ليعدل صوته واسترسل في إلقاء القصيدة.
يدك التي حطت على كتفي
كحمامة . . نزلت لكي تشرب
عندي تســاوي ألف مملكة
يا ليتهـــــــا تبقى ولا تذهب
تلك السبيكة . . كيف أرفضها
من يرفض السكنى على كوكب
لهث الخيال على ملاستها
وأنهار عند سوارها المذهب
الشمس نائمة على كتفي
قبلتهــــا ألفــا ولم أتعب
نهر حريري . . ومروحة
صينية . . وقصيدة تكتب
يدك المليسة . . كيف أقنعها
أني بها .. أني بها معجب
قولي لها تمضي برحلتها
فلها جميع . . جميع ما ترغب
يدك الصغيرة . . نجمة هربت
مــاذا أقــول لنجمة تلعب
أنا ساهر .. ومعي يد امرأة
بيضاء .. هل أشهى وهل أطيب؟
نوال أغرمت بإلقائه صوته عذب ورقيق وبه إحساس مرهف أعطى للأبيات رونقا جماليا، ياسر ما هذا الجمال لقد همت وأنا أسمعك تلقي القصيدة أنت شاعر بالفطرة، لقد اشتقت لك كثيرا الجلوس معك يزيدني معرفة أنت من بالنسبة لي.
ياسر : أما عن نفسي فقد غلبني الشوق إليك فأتيت راكضا إليك وأنا كالعطشان طامع في أن تسقينني.
نوال : مر هذا الشهر كأنه قرن.
ياسر : وأنا لدي نفس الشعور، كيف حالك؟ مهلا من أين لك بتلك القرطاسية؟
نوال : هذه ليست لي؟
بنظرة يملئها الشك والريبة لمن إذا؟
نوال : إنها لوالدي.
ياسر : أها هناك أمر جديد حدث في غيابي أخبريني كلي شوق فمدة شهر مرت كأنها سنوات لقد اشتقت لك ولأحاديثك وأصررت على لقاءك لأشبع حنيني إليك فالنظر إليك يريحني ووجودك أمامي يطمئنني أما كلامك يسحبني كالمجنون إليك.
نوال : احمرت وجنتاها من الخجل، خبأت وجهها بكفيها، ابتسمت، تأملته من خلال الشق الذي بين أصابعها اللحية زادته جمالا آه يا قلبي.
أشار لها ياسر : نوال أين سهوت ؟ أنا هنا.
نوال : سأخبرك لقد اكتشفت بأن أبي فيلسوف ورجل حكيم وله قلم جبار.
ياسر : كيف ذلك ؟
نوال ناولته القرطاسية وقرأ النص بنهم شديد كأنه لم يقرأ منذ زمن أعاد القراءة أكثر من مرة وهو في كل مرة يندهش.
ياسر : نوال أباك داهية لمَ لمْ يكتب رواية أو حتى مقالات في الصحف له أسلوبه الخاص حقا إنه فريد من نوعه فعلا إنه فيلسوف، والسؤال الذي طرحه يحتاج إلى فهم عميق وقد لا نجد الإجابة.
![]() |
مناقشة |
قصة قل لي كيف أنجو منك - مناقشة قوية
ربما نقتنع أو نقنع أنفسنا بأننا مخيرين ويقع علينا الاختيار فمثلا أنا من اخترت مشاهدة هذا الفيلم ومتابعة هذه القناة، لكن في الحقيقة نحن نشاهد ما قدم لنا على سبيل المثال: أنت قدمت لي طبقا وأنا أكلته هل أنا من قام بإنتقائه حتما لا، بل أنتِ أعطيتني إياه وأنا أكلته على مضض، لكن عندما أنا أشكل الوصفة وأطبخها هنا أنا من اختار ذلك، كذلك الحال مع القنوات والبرامج التلفزيونية، هل فهمتي قصدي.
نوال : الحقيقة السؤال الذي طرحه أبي يطرح إشكالية بين الاختبار والبرمجة، وأنا أقول نحن مبرمجون وسأوضح ذلك، الطفل عندما يأتي إلى الحياة يكون كصفحة بيضاء خالية فيتم برمجته من خلال الأم والأب والمدرسة والمجتمع إلى أن يكبر ويكتشف ذلك أو قد لا يكتشف ذلك، أتعلم لمَ لا يكتشف غالبيتنا أننا مبرمجين ؟
لأن لا أحد يحب فكرة أن تهدم الوهم الذي يعيش فيه بالحقيقة، فيفضل أن يبقى جاهلا لأن الجاهل لا يتعب، الإدراك لعنة ـ كما قال دوستويفسكي ـ ويصبح نقمة على صاحبه.
ياسر : أنا فضلت الحديث عن الاختيار وأنت عن البرمجة، لكن الجميل في الأمر فكرتي وفكرتك تصب في اتجاه واحد أي أننا تم إرغامنا على ذلك لكن الأدهى في ذلك أننا سعيدون و نتفاخر بحرية القرار فعلا إنها مسرحية سخيفة.
نوال : لكن هناك سلاح فتاك يتم في وسائل الإعلام وهو التضليل.
ياسر : نعم أوافقك الرأي وبشدة، هذا السلاح يأتي بنتائج خرافية وغير متوقعة، وأهم ذخيرة لهذا السلاح هي العواطف الإنسانية، فمثلا السياسي لينجح في ترشيحه يختار ورقة رابحة لينتصر على خصمه، كأن يذيع الخبر عنه يهيج عاطفة المخاطبين، فتنهال عليه الهتافات والنجاحات، فعلا سلاح يدمر كل الأسس، لكن كيف وصل الحال بنا إلى هنا.
نوال : بسيطة لا تحتاج إلى تفكير، انعدام المبادئ، انعدام الحس الإنساني، انعدام الأخلاق، الابتعاد عن الدين، الرأسمالية المتوحشة صنعت جيلا تافها وهشا ليسهل اقتياده إلى حتفه وهو سعيد.
ياسر : نعم ما يحصل من حروب والعالم صامت ويلهو وكأن شيئا لم يحدث، هنا وجب علينا أن نرثي الإنسانية والإنسان.
نوال : كما قال نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام :
"لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم"
ياسر : عليه أفضل الصلاة والسلام، كتابات والدك جعلت الحس النقدي لدينا يتقدم، فعلا إنه داهية.
نوال : لقد تعلمت منه الكثير، إنه معلمي حتى أسلوبي في الكتابة بدأ يتحسن سوف أريك ما كتبته أمس.
قصة قل لي كيف أنجو منك - لمَ نكتب؟
نحن لا نكتب من أجل أن ننسى أو حتى من أجل أن نهرب، بل نكتب لأننا بحاجة ملحة لنتعرف على أنفسنا من جديد، الكتابة فن تجريدي، تجردك من كل شيء حتى تلك الأنا التي تعاندك تستسلم أمام سطوتها، هي ليست حبر على ورق، أو حتى حزمة كلمات، أو حتى صفوف من الجمل، هي عبارة عن شعورنا، تجاربنا، وصدماتنا، وأحاسيسنا.
اقرأ ايضا قصة الحب الذي غير حياتي
هي نحن على ما نحن عليه، لا كما نريد أن نكون عليه، هي خلطة سريالية يصعب تخطيها وتجاوزها، هي كالحرب لا رابح فيها ولا ناجي فيها، لا من كتب انتصر ولا حتى من قرأ انتصر، هي كالأحجية التي يصعب فك شفراتها، تبقى مبهمة غير مكتملة، نكتب ونكتب عسانا أن نفهمها، لكن نفشل وبالرغم من ذلك نواصل الكتابة، لأنها هي الوحيدة التي تبعثرنا وتكوننا من جديد، الكتابة نوع من فنون المراوغة.
ياسر : مندهش ينظر إلى الورقة تارة ولنوال تارة، يتذوق تلك الكلمات كأنها قطعة حلوى، لازال مذاقها عالقا في جوفه، ماهذا؟
هل أصبحت فيلسوفة كوالدك؟ صدقت أسلوبك تطور كثيرا ، ما السر في ذلك؟
نوال : أن تكون شخصا يملك حس الفضول ومفتون بمراقبة التفاصيل.
ياسر : إجابة خرجت من حكيمة، تصفيقاتي الحارة على هذا التقدم أنا فخور جدا بك.
نوال : شكرا لك هذه ثمار الجلوس مع والدي وأنا جد سعيدة بأنني تعرفت عليه، سوف أتركك فموعد أبي مع الطبيب اقترب.
ياسر : لقد مر الوقت كلمح البصر، الوقت معك لا يرحم.
حسنا أتمنى له الشفاء عندما تنتهون من المراجعة أخبريني ليطمئن قلبي.
نوال : حسنا إلى موعدنا القادم.
غادرت نوال وكأن قلب ياسر غادر معها ويعود عندما تعود إليه.
يتبع...
بقلم الأنامل المغربية:
" نجوى المهندس "